للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنواع الرخصة:

للعلماء منهجان في بيان أنواع الرخصة، وهما منهج الشافعية والحنابلة، ومنهج الحنفية.

المنهج الأول: للشافعية والحنابلة: قسم علماء الأصول من الشافعية والحنابلة الرخصة إلى أربعة أنواع (١) :

الأول – واجبة: كأكل الميتة للمضطر؛ فإنه واجب لعذر هو حفظ الحياة، ودليله قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] .

الثاني – مندوبة: كقصر الصلاة للمسافر إذا قطع مسافة ثلاثة أيام فصاعدًا، بوسائط النقل القديمة، وإنما كان القصر مندوبا لقول عمر رضي الله عنه: " صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ".

الثالث – مباحة: كعقد السلم (السلف) وهو بيع آجل بعاجل، والعرايا، والإجارة، والمساقاة، وشبه ذلك من العقود؛ فإنها رخصة بلا نزاع؛ لأن السلم والإجارة عقدان على معلوم مجهول، فالمسلم فيه غير موجود عند التعاقد، ومنفعة المأجور غير قائمة عند العقد، وإنما تستوفى مع مرور الزمن، وكلاهما مجهول غير معروف تماما. والعرايا: بيع الرطب على رؤوس الأشجار خرصًا بالتمر القديم، جوزت للحاجة إليها استثناء من شرط التماثل أو المساواة في البيوع الربوية، والتمر مال ربوي، والرطب ينقص إذا جف، فلم تتحقق المماثلة المطلوبة شرعا. أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن سهل بن أبي حثمة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها، يأكلها أهلها رطبا)) . وأخرج أحمد والبخاري عن زيد بن ثابت: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا)) (٢) . والخرص: التخمين والتقدير. قال الإمام مالك: العرية: أن يعري الرجل الرجل النخلة، أي يهبها له أو يهب ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: العرايا (جمع عرية) : أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا. أي بتقديرها تمرا.

وإنما كانت هذه الأنواع رخصة؛ لأن طريق كل منها غير متعين لدفع الحاجة؛ إذ يمكن الاستغناء عنه بطريق آخر، فالسلم مثلا يمكن الاستغناء عنه بالقرض.

الرابع – خلاف الأولى: كفطر المسافر الذي لا يتضرر بالصوم. وإنما كانت هذه الرخصة خلاف الأولى أخذا من قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] فالصوم مأمور به في السفر أمرا غير جازم، وهو يتضمن النهي عن تركه، وما نهي عنه نهيا غير صريح، فهو خلاف الأولى.

والخلاصة: إن مدار تقسيم الشافعية والحنابلة للرخصة هو العذر، كما لا حظنا في تعريفهم الرخصة.

وقال الشاطبي مبينًا حكم الرخصة عند المالكية: حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة، وأما وجوب تناول المحرمات في حال الاضطرار، فيرجع إلى عزيمة أخرى هي المحافظة على الحياة، كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: ٢٩] . واستدل الشاطبي بأدلة كثيرة لتأييد رأيه، أفاض فيها في الجزء الأول من الموافقات.


(١) المستصفى: ١ / ٦٣؛ الإبهاج للسبكي: ١ / ٥٢؛ شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع: ١ / ٥٢؛ شرح الإسنوي: ١ / ٩٠؛ الأشباه والنظائر للسيوطي: ص ٧٥.
(٢) نيل الأوطار: ٥ / ٢٠٠، ط العثمانية المصرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>