للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنهج الثاني، للحنفية: قسم الحنفية الرخصة إلى أربعة أنواع (١) :

الأول – إباحة الفعل المحرم عند الضرورة أو الحاجة، ومثاله: التلفظ بالكفر عند الإكراه عليه بالقتل، أو بقطع بعض الأعضاء، مع اطمئنان القلب بالإيمان، ودليله قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: ١٠٦] .

ومثل الإفطار في رمضان عند الإكراه، والجناية على الإحرام بحج أو عمرة، وإتلاف مال غيره عند الإكراه، وحل الأكل من الميتة عند الجوع الشديد، وإباحة شرب الخمر عند الظمأ الشديد. وحكمه: الجواز إلا إذا خاف الشخص هلاك نفسه أو ذهاب عضو من أعضائه، فحينئذ يصير العمل بالرخصة واجبا، فإذا لم يعمل بها حتى مات، كان آثمًا، لتسببه في قتل نفسه، وهذا ينطبق على البدعة الجديدة وهي الإضراب عن الطعام، حتى الموت، والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] ويقول سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] .

ولكن الحنفية قالوا: إن الأخذ بالعزيمة أولى في حال الإكراه عن الكفر، ولو قتل كان مأجورا (٢) . واستدلوا عليه بما يروى: أن مسيلمة الكذاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للأول: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ قال: وأنت أيضا، فخلى سبيله، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول في: قال: أنا أصم لا أسمع، فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أما الأول فأخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فصدع بالحق، فهنيئا له)) (٣) .

الثاني – إباحة ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة تلحق المكلف، كإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] فهذا النص يقضي بأن المسافر والمريض لا يجب عليهما الصوم في حال السفر والمرض. ومثله قصر الصلاة الرباعية في السفر؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: ١٠١] .

الثالث – إباحة العقود والتصرفات التي يحتاج الناس في مخالفتها للقواعد المقررة، كعقد السلم ونحوه، كما تقدم بيانه عند الشافعية؛ فإن السلم من قبيل بيع المعدوم، وبيع المعدوم باطل، ولكن الشارع أجازه لحاجة الناس إليه. ومثله عقد الاستصناع: وهو طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص، كاستصناع المفروشات الخشبية والكراسي والحلي، والثياب والأحذية ونحوها على ثمن معلوم. الشيء المصنوع معدوم عند التعاقد، وأجيز العقد للحاجة استحسانًا.

الرابع – رفع الأحكام الشاقة التي كانت مشروعة في الشرائع السابقة، والتخفيف فيها عن الأمة الإسلامية، كاشتراط قتل النفس للتوبة من العصيان فيما كان مقررا في ظرف زمني معين على اليهود، كما حكى القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ٥٤] وتطهير الثوب بالقرض: قطع موضع النجاسة، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وبطلان الصلاة في غير موضع العبادة المخصوص من البيع والكنائس، ونحو ذلك مما أشار إليه القرآن الكريم جملة في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: ٢٨٦] وقوله سبحانه في بيان خصائص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومهامه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] والإصر: الثقل، أي العبء الثقيل، وهو التكاليف الشاقة.


(١) التقرير والتحبير: ١٤٦/٢؛ فواتح الرحموت: ١ / ١١٦ – ١١٩؛ كشف الأسرار: ١ / ٦٣٥ وما بعدها؛ مرآة الأصول: ٢ / ٣٩٥ وما بعدها..
(٢) فواتح الرحموت: ١٧١؛ مرآة الأصول: ٢ / ٣٩٥: التقرير والتحضير: ٢ / ١٤٧؛ كشف الأسرار: ١ / ٦٣.
(٣) التلخيص الحبير لابن حجر: ٤ / ١٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>