للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التلفيق في التقليد

مر في الفصل السابق عند الكلام على تتبع الرخص وآراء الفقهاء والأصوليين فيه مجمل آرائهم في هذه المسألة بما لا حاجة لإعادته هنا، ونقتصر هنا على بيان ما لم نذكره هناك:

أ- المقلد إما أن يكون عاميا صرفًا وهذا الصنف من المقلد لا مذهب له، وأن مذهبه في كل نازلة هو مذهب من أفتاه فيها ولكن ليس معنى هذا أنه مسلوب الاختيار معدوم الإرادة، وإنما له مجال لإعمال رأيه بأن يتخير بين المجتهدين أو يتخير من أقوالهم ما يلائمه للعمل بها، وذهب بعضهم إلى أن المجتهد بالنسبة للمقلد بمنزلة الأدلة المعارضة بالنسبة إلى المجتهد فلا يجوز للمقلد العمل بأحد الأقوال بدون ترجيح، كما لا يجوز للمجتهد العمل بأحد الأدلة دون الترجيح (١) وإنما يقصد من عرف علمه وعدالته بأن يراه منتصبًا لذلك والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه، واختلف فيمن جهل حاله. قال الزركشي: وممن حكى الخلاف في استفتاء المجهول: الغزالي والآمدي وابن الحاجب، ونقل في المحصول الاتفاق على المنع فحصل طريقان (٢) فلو سأل جماعة فاختلفت فتاويهم فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أورعهم وأعلمهم، وقال آخرون: لا يجب ذلك ولعل مبنى الخلاف هنا مبني على الخلاف في جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل وهو الأولى بالأخذ وذلك لعموم قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: ٤٣] ولإجماع الصحابة على قبول فتوى المفضول مع وجود الفاضل في الواقع وفي اعتقادهم (٣) ومن المسائل التي لها صلة بالتلفيق هو هل يجب على العامي التزام تقليد مذهب معين في كل واقعة؟ ذكر الزركشي ثلاثة مذاهب:

الأول: يلزمه وهو رأي الكيا الهراسي.

والثاني: لا يلزمه ورجحه النووي قال: وهو الصحيح لأن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد، وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد، وحكى الرافعي عن أبي الفتح الهروي أن مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له.

والثالث: وهو لابن المنير قال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة لا قبلهم، والفرق أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم، أما بعد أن فهمت المذاهب ودونت واشتهرت وعرف المرخص من المشدد في كل واقعة فلا ينتقل المستفتي من مذهب إلى مذهب إلا ركونًا إلى الانحلال والاستسهال (٤) .


(١) تيسير التحرير ٤ / ٢٥٢.
(٢) البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.
(٣) نهاية السول للإسنوي ٤ / ٦١٢، ٦١٣.
(٤) البحر المحيط ٦ / ٣١٩، ٣٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>