للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخلاصة القول

إن العلماء كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام منهم – على ما نقل السيوطي – ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به.

أو كما قال الشعراني في ميزانه: تفتي كل واحد بما يناسب حاله ولو لم تفعل أنت به كذلك لأنه هو الذي خوطبت فيه.

وهناك من الرخص ما يجب العمل بها كحل الميتة للمضطر إحياء للنفس.. وإن كانت الرخص بالجملة مشروع الأخذ بها لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصة كما يجب أن تؤتى عزائمه.. لينال العباد من رفق الله تعالى وتيسيره بحظ ولو لم يكن فيه مشقة (كما قال الشاطبي) كالجمع بعرفة والمزلفة، وإن كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجًا، وطالب المخرج من وجهه طالبه لما ضمن له الشارع النجاح فيه، والرجوع إلى الوجه الذي وصفه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال.

وتتبع الرخص مشروع بالجملة.. قال العز بن عبد السلام: للعامي أن يعمل برخص المذاهب، وإنكار ذلك جهل ممن أنكره، لأن الأخذ بالرخص محبوب، ودين الله يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج.. ولكن ليس ذلك على الإطلاق.. بل لابد من مراعاة ما اعتبره المجتهد في المسألة التي وقع التقليد فيها بما يتوقف على صحتها كي لا يقع في حكم مركب من اجتهادين – كذا في الجوامع للسبكي – حيث قال: التلفيق في أجزاء الحكم لا في جزئيات المسائل، وإنما المحظور ما يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف.

وجوز السيوطي الانتقال من المذهب مطلقًا فيما عمل به وما لم يعمل العامي.

لكن الغزالي يحظر على العامل أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيوسع، وبه قال ابن عبد البر، لكن تتبع ابن عبد البر بذلك.

وأما القرافي المالكي فقد قال بجواز تقليد العامي غير إمامه على ألا يترتب على تقليده ما يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إليه.

ولكن الكمال بن الهمام من فقهاء الحنفية قال: لا يمنع مانع شرعي من جواز اتباع المقلد رخص المذاهب، بأن يأخذ من كل منها ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل.. وبه قال تلميذه ابن أمير حاج، وتبعه ابن بادشاه حيث منع من تفسيق متتبع الرخص وبين الصورة المحظورة منها..

لكن الإمام الشاطبي حمل لواء منع تتبع الرخص بالمطلق في الموافقات.. وقد بسطنا قوله ودليله.. لأن تتبع الرخص في رأيه يؤدي إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة..

وخلاصة القول في المسألة ما أورده العز بن عبد السلام أن الأولى التزام الأشد والأحوط له في دينه أي من كل مذهب.. وأورد نماذج لتلك المسائل.. هذا في تتبع الرخص.

أما في التلفيق:

فليس على إطلاقه إجماعًا.. وإنما يشترط في المقلد الملفق ألا يترتب على تقليد من قلده أولًا ما يجتمع على بطلان كلا المذهبين ... وألا يكون التلفيق في المحظورات لكونها على الورع.

والضابط في جواز التلفيق: أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتهما فهو محظور.

وأما إذا كان التلفيق يؤيد دعائم الشريعة وما ترمي إليه حكمتها وسياستها الكفيلتان بسعادة الدارين تيسيرًا عليهم في العبادات وصيانة لمصالحهم في المعاملات فهو مطلوب.

وهو ما أشار إليه العلماء بقولهم بأن التلفيق الممنوع ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي.. وهذا ما يجري على تتبع الرخص أيضًا.

لأن ما ورد فيه النص فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله. وبالجملة فإن التلفيق يصدق عليه ما يصدق على الكلام حول مسألة إحداث القول الثالث. هذا وللتقليد بعد الفعل صلة بالتلفيق، بل التلفيق هو أحد صوره.. وصححه غير واحد من الفقهاء.

والتلفيق الممنوع باتفاق هو الذي يستلزم نقض حكم الحاكم أو يستلزم الرجوع عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.

والله أعلم بالصواب

الشيخ خليل محيي الدين الميس

<<  <  ج: ص:  >  >>