للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذه النصوص من الآيات والأحاديث كلها تنادي بأعلى نداء أن الدين الإسلامي يسر لا عسر فيه ولا حرج، وليس في أحكامه ما يجاوز قوى الإنسان، أو ما يعنته.

ومن ضوء هذه النصوص استنبط الفقهاء – رحمهم الله تعالى – القواعد المشهورة المعروفة المذكورة في كتب " القواعد الفقهية " وجعلوها بمثابة نبراس يستضيئون به عند النوازل والوقائع، ويعالجون كثيرًا من المسائل والقضايا على أساسها – وهي كما يلي:

القواعد الفقهية الدالة على اليسر ورفع الحرج:

١- " المشقة تجلب التيسير " (١) .

٢- " لا ضرر ولا ضرار " (٢) .

٣- " الضرر يزال " (٣) .

٤- " الضرورات تبيح المحظورات " (٤) .

٥- " يختار أهون الشرين " (٥) .

٦- " يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام " (٦) .

٧- " الضرر الأشد يزال بالأخف " (٧) .

٨- " إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما " (٨) .

٩- "درء المفاسد أولى من جلب المنافع " (٩) .

١٠- " إذا ضاق الأمر اتسع " (١٠) .

١١- " إن ما عمت بليته خفت قضيته " (١١) .

١٢- " لو كان أحدهما أعظم ضررًا من الآخر، فإن الأشد يزال بالأخف " (١٢) .

فهذا بعض ما تيسر لي إيراده من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والقواعد الفقهية، فيه ما يبين أن الدين يسر ورحمة لنا، قد رفع عنا العسر والحرج، كيف وقد سمى الله – سبحانه وتعالى – نفسه بـ " الرحمن " و "الرحيم " وسمى نبيه – عليه الصلاة والسلام – بـ " الرؤوف " وأرسله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه بالرحمة، فقال خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: ٨٩] . وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) } [النمل: ٧٦] .

معنى رفع الحرج:

فوضح أن الشرع لم يأت ولم يكلف بما لا يطيقه الإنسان أو يعنته؛ بل شرع من الأحكام الأصلية ورخص ما يناسب أحوال المكلفين.

ولكن ليس معنى أن الشرع أطلق العنان للمكلفين، ومنح لكل أحد الحرية لأن يترك كل عمل يحسبه عسيرًا، وإنه لو كان كذلك لانفتح باب الإباحة، وانغلق باب التكليف، وتعطلت الشرائع، وانسد باب العمل الذي خلق له الإنسان، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] .

والظاهر أن المقصود من الشرع تزكية النفس، وانتظام الأمور الدنيوية والأخروية، ورضى الحق – سبحانه وتعالى – وذلك لا يحصل إلا بالعمل بالشريعة، ويعلم كل من له أدنى شعور أنه لا يخلو عمل مطلوب شرعًا من نوع كلفة، ومن هنا سمي تكليفًا، لأن فيه نوع مشقة، ولو لم يكن فيه إلا مخالفة الهوى لكن كافيًا في كونه شاقًّا على النفس، لكن هذا القدر من المشقة ليس مانعًا من التكليف.

فالكلفة والمشقة التي توجد في كثير من المطلوبات الشرعية هي كلفة معتادة لا يمنع التكليف معها، وهي داخلة في حدود الاستطاعة والوسع المذكور في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦] .

كما أن الأعمال الدنيوية ككسب المعاش فيها كلفة، بل كثير من أعمال النزهة والتفرج لا يخلو من مشقة وكلفة أيضًا: ومع هذا لا يعد شاقا، ولا يتقاعس الناس من أجلها عن ذلك العمل لكون الكلفة والمشقة فيه عادية، بل أهل العقول يعدون المنقطع عنه كسلان، والناس يذمونه بذلك، فكذلك المعتاد في التكاليف.

وهذا كما قاله العلامة الشاطبي – رحمه الله تعالى -: " وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة والتي تعد مشقة، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه، أو من وقوع الخلل في صاحبه في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة (١٣) .

فعلى هذا ليس كل مشقة تجلب التيسير والتخفيف والرخص، بل المشقة غير المعتادة هي التي تجلب التيسير والتخفيف، وهذه هي المرادة من النصوص والقواعد الفقهية التي ذكرناها آنفًا.


(١) القاعدة الرابعة في الأشباه والنظائر لابن نجيم، والقاعدة الثالثة في أشباه الإمام السيوطي، وغيرهما من كتب القواعد الفقهية.
(٢) مجلة الأحكام، رقم ١٩.
(٣) الأشباه والنظائر لابن نجيم، القاعدة الخامسة، وأشباه السيوطي، ومجلة الأحكام، رقم ٢٠، وشرح القواعد الفقهية ص ١٢٥.
(٤) أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، ومجلة الأحكام، رقم ٢١، وشرح القواعد ص ١٣١.
(٥) مجلة الأحكام، رقم ٢٩.
(٦) أشباه ابن نجيم، والمجلة، رقم ٢٦، وشرح القواعد ص ١٤٣.
(٧) مجلة الأحكام، رقم ٢٧.
(٨) أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، ومجلة الأحكام، رقم ٢٨، وشرح القواعد ص ١٤٧.
(٩) أشباه ابن نجيم تحت القاعدة الخامسة، والمجلة، رقم ٣٠.
(١٠) شرح القواعد الفقهية ص ١١١، والمجلة رقم ١٨، وأشباه ابن نجيم تحت القاعدة الرابعة.
(١١) أشباه ابن نجيم.
(١٢) أشباه ابن نجيم.
(١٣) الموافقات ٢ / ١٢٢ – ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>