للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والشاطبي أحد الأعلام الذين ذهبوا إلى منع تتبع الرخص حيث خصص صفحات من كتابه الموافقات لهذا الغرض. فيقول: ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة. فلا يصح القول بالتخيير على حال (١) .

وكشف عن وجه المنع من تتبع رخص المذاهب فقال: وقد أدى إغفال هذا الأصل (منع المقلد من أن يتخير في الخلاف) إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعًا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعًا للغرض والشهوة فيما لا يتعلق به فصل قضية، وفيما يتعلق به ذلك " (٢) .

وأورد الشاطبي بعد ذلك نماذج ووقائع لهذين النوعين من تخير رخص المذاهب واتباع الحيل الشرعية (٣) .

ونقل عن رجل من فقهاء هذا الصنف أنه كان يقول: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه.

وذكر أن كثيرًا ما يسأل من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية أو لعل فيها رخصة.

ثم قال بعد ذلك: " وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل " (٤) .

ونقل الشاطبي اعتراض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد. فرد هذا الاعتراض بقوله: إن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها. بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى (٥) .


(١) الموافقات: ٤ / ١٣١
(٢) الموافقات: ٤ / ١٣٥.
(٣) الموافقات ٤ / ١٣٥ – ١٣٩.
(٤) الموافقات: ٤ / ١٤٠.
(٥) الموافقات: ٤ / ١٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>