للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد سجل الشاطبي موقفًا للمازري في الامتناع من الأخذ برخص المذاهب أو التلفيق بين الأحكام جديرًا بالاعتبار في عصرنا هذا. وذلك في قوله: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه، لأن الورع قل بل كاد يعدم وكثرت الشهوات وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه. فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذاهب. وهذا من المفسدات التي لا خفاء فيها. " ويعقب الشاطبي على كلام المازري فيقول: " فانظر كيف لم يستجز – وهو المتفق على إمامته – الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما يعرف منه، بناء على قاعدة مصلحية ضرورية، إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلوم والفتوى، فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب " (١) .

أما إذا كان تتبع رخص الفقهاء أو التلفيق بين فتاوى المذاهب في نطاق عمل المجامع الفقهية ولجان الفتوى: فإن الظاهر جوازه. بل وجوبه في عصرنا هذا. لأمن الفتنة من التخير بالأهواء والتشهي ولتوفر ضمانة الموضوعية. والحياد المجرد من فساد الغرض وسوء القصد، بوجود فقهاء أتقياء في المجامع ولجان الفتوى يحول اجتماعهم دون اللعب بالأحكام والعبث بشرع الله.

خاصة ونحن في عصر تشابكت فيه العلاقات وكثرت الوقائع وتداخلت التصرفات. فكلما أمكن ردها إلى حكم شرعي أو تخريجها عليه كان في ذلك خير وبركة لأمتنا وإبراز لشخصيتها وتحقيق لاستقلالها في تشريعها.

وقد وجدت ابن عابدين يذهب إلى أن المقلد لا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهبه ولاسيما في زمانه حيث اعتاد السلطان أن ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالأقوال الضعيفة، فكيف بخلاف مذهبه. ولا يفرق ابن عابدين في هذا بين المفتي والقاضي.

فكان سند ابن عابدين في النهي هو توجيه السلطان (السلطة العليا) نحو وجهة معينة في القضاء (٢) .

وفي ضوء توجيه السلطات الآن في أكثر البلاد العربية والإسلامية أن لا يلتزم بمذهب معين، ولتحقيق شيوع الاحتكام إلى الفقه الإسلامي: يكون الاعتماد على فتاوى المذاهب أو تتبع الرخص – بتخير المجامع الفقهية ولجان الفتوى – أمرًا مطلوبًا لا مندوحة منه.

والله من وراء القصد ...

أ. د. حمد عبيد الكبيس


(١) الموافقات: ٤ / ١٤٦.
(٢) رد المحتار على الدر المختار ١ / ٧٦ – ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>