وعلى ضد ذلك اختيار المذهب الثاني – منع التلفيق بإطلاق – مع كونه غير ثابت من الكتاب والسنة لا يلائم مقتضيات هذا العصر، لأن القضايا الفقهية المتجددة لا يمكن لنا أن ننجح بحلها الشرعي إذا تقيدنا بمذهب فقهي خاص – فإن هذا التقييد كثيرًا ما يؤدي إلى ضيق وحرج – وإن تعدد المذاهب الفقهية رحمة وفسحة من الله، وكل هذه المذاهب مصدرها الكتاب والسنة فلا مانع من أن نستفيد في حل القضايا العصرية المعقدة سواء كانت في مجال الاقتصاد أو السياسة أو في أي ميدان سواهما من آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين لا لتتبع الرخص بل لدفع الحرج والمشقة عن الأمة.
خلاصة القول: أن التلفيق ممنوع للتخلص من الواجبات وتجاوز المحرمات أو للتشهي والتلهي، ولكنه مباح لأغراض صحيحة بشروط آتية:
الأول: أن لا يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا مثلاً: لو قال لامرأته أنت طالق البتة وهو يراها ثلاثًا فأمضى رأيه فيها بينه وبينها وعزم على أنها حرمت عليه ثم رأى بعد ذلك أنها تطليقة رجعية فأراد أن يراجعها ويبقيها في زوجتيه.
الثاني: لا يستلزم الرجوع عن لازمه الإجماعي – أي عن لازم ما عمل به تقليدًا – مثلاً: لو قلد رجل أبا حنيفة في النكاح بلا ولي ونكح امرأة بالغة بلا ولي فلا شك أن صحة النكاح يستلزم صحة إيقاع الطلاق عليها فلو طلق هذا الرجل هذه " المرأة المنكوحة بدون ولي " ثلاثًا ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي فليس له ذلك لأنه رجوع عن التقليد في اللازم الإجماعي.
الثالث: أن لا يختار قولاً من نوادر العلماء وشواذهم؛ فإن نوادر العلماء وشواذهم التي رفضتها الأمة وما تلقتها بالقبول، الأخذ بها لا يجوز، قال الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وقال سليمان التيمي:" إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " والمراد بشواذ العلماء ونوادرهم الأقول التي تدعى بالزلات – والحاصل أنا لو أبحنا التلفيق وتتبع الرخص مطلقًا لكان فتنة وابتلاء للأمة وهتكت هيبة الشريعة، لأنهما يؤديان إلى الإباحية والانحلال والتشهي والتلهي، نعم لو احتاج الفقهاء المعتمدون لحل القضايا المعقدة المتجددة إلى اختيار الرخصة أو إلى التلفيق حسب شروطه المعتبرة لإزالة الضيق والحرج عن الأمة فلا يكون فيه بأس كما أرى؛ خصوصًا إذا كان هذا العمل باجتهاد جماعي من العلماء الراسخين، والله أعلم.