للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رابعًا: تتبع الرخص ورأي الفقهاء والأصوليين فيه:

تتبع الرخص هو أن يأخذ الإنسان من مذهب كل إمام ما هو الأسهل والأخف عليه من المسائل التي اجتهد فيها الأئمة. أما الرخص التي نص الشارع عليها والتي بينا أنواعها آنفًا – فلا حرج على من عمل بها باستمرار، إذ الآخذ بها لا يعتبر متتبعا للرخص، لأن الشارع رغب في الأخذ بها كما تقدم في حديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) .

وقبل أن نتكلم على رأي الفقهاء والأصوليين في تتبع الرخص نجد أمامنا سؤالاً يطرح نفسه: هل يجوز لمن التزم مذهبًا معينًا أن يخالفه ويعمل بغيره من المذاهب الأخرى؟

في المسألة خلاف: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، قيل: إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز أن يخالف ما عمل به فيها، وقيل: إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهب إمامه جاز، وقيل: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم به لم يجز، وإلا جاز؛ واختاره ابن عبد السلام، ذكر ذلك الشوكاني (١) .

وذكر العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي أن الأصح في هذه المسألة التفصيل الآتي فقال:

وذو التزام مذهب هل ينتقل أو لا وتفصيل أصح ما نقل

ومن أجاز للخروج قيدا بأنه لابد أن يعتقدا

فضلاً له وأنه لم يبتدع بخلف الإجماع وإلا يمتنع

وعدم التقليد فيما لو حكم قاض به بالنقض حكمه يوم

ومعنى ذلك كما في الشرح أن العامي (٢) يجوز له ذلك بثلاثة شروط:

أحدها: أنه لابد أن يعتقد فضل المنتقل إلى مذهبه ولو بوصول أخباره إليه، ولا يقلد في عماية.

الشرط الثاني: أن لا يبتدع المنتقل بمخالفة الإجماع، كأن يجمع بين مذهبين على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بجوازها أحد.

الشرط الثالث: عدم تقليد المذهب المنتقل إليه فيما ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة جمعها قوله:

إذا قضى حاكم يومًا بأربعة فالحكم منتقض من بعد إبرام

خلاف نص (٣) وإجماع (٤) وقاعدة

كذا قياس جلي دون إيهام (٥)


(١) إرشاد الفحول للشوكاني ص ٢٧٢.
(٢) المراد العامي: المقلد، أي غير المجتهد.
(٣) مثال مخالفة النص أن يحكم بتسوية الذكر والأنثى في الميراث، لأنه مخالف لقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: ١١] .
(٤) مثال مخالفة الإجماع أن يحكم بالميراث كله للأخ دون الجد لأنهما إما أن يشتركا في الميراث أو يكون الميراث للجد كله، أما حرمان الجد فلم يقل به أحد.
(٥) القياس الجلي هو ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، فقد يكون من باب أولى كقياس الضرب على التأفيف في قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] ، وقد يكون مساويًا كقياس إتلاف مال اليتيم على أكله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: ١٠] .

<<  <  ج: ص:  >  >>