للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا طرأت للمكلف حالة غير عادية لا يمكن له معها أن يقوم بفعل الواجب أو ترك الحرام، فإن الشارع رخص له في ذلك بناء على العارض غير المعتاد، فلذلك أدرجوا العزائم والرخص في القسم الأول من الحكم، وهو خطاب التكليف. وإلى هذا الرأي ذهب كثير من المتأخرين (١) .

وذهب آخرون، كابن السبكي والغزالي (٢) إلى اعتبارهما حكمين وضعيين، إذ العزيمة عندهم تتصور في جعل الشارع الأحوال الاعتيادية للناس سببًا لاستمرار الأحكام الأصلية العامة.

أما الرخصة فتتصور في جعل الشارع الأحوال الطارئة عليهم كالسفر والمرض والإكراه والضرورة سببًا للتخفيف عنهم، أو مانعة من التكليف بحكم العزيمة. والسبب هو من الأحكام الوضعية لا التكليفية، لأنه لا طلب فيه ولا تخيير، بل فيه وضع وجعل واعتبار. والبحث في هذا الموضوع ينصب عادة على أسباب الترخص التي تعد أسبابًا لإباحة الفعل الذي كان ممنوعًا، ونفي صفة الجريمة والمعصية عنه، أو أسبابًا لعدم التكليف بهذا الفعل، وهذه كلها أحكام وضعية (٣) . وفي هذا يقول ابن أمير الحاج: وقيل: للشارع في الرخص حكمان:

- كونها وجوبًا أو ندبًا أو إباحة، وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير.

- كونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه، مع قيام الوضع لأنه حكم بالمسببية. ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين مختلفتين (٤) .

- وذهب فريق ثالث إلى أن الرخصة والعزيمة قسمان للحكم باعتبار عمومه وعدم عمومه، أو باعتبار تغيره من صعوبة إلى سهولة أو عدم تغيره. فما كان عاما ثابتًا يدعى: العزيمة. وما كان خاصا متغيرًا فهو: الرخصة (٥) .

والتحقيق أن الخلاف في هذه المسألة لا ينجر عليه أثر عملي، لأنه خلاف لفظي لا تترتب عليه ثمرة سوى المنهجية في الكتابة والتبويب، لأنهما بالفعل من أحكام التكليف، باعتبار، ومن أحكام الوضع، باعتبار ثان.

العزيمة والرخصة

قبل أن نبدأ بتعريف العزيمة والرخصة لا بد أن نبين أولاً أن أحكام الشرع الأصل فيها العموم، فلا تختص ببعض المكلفين دون بعض. فكانت الواجبات والمحرمات هي واجبة أو محرمة على كل المسلمين إذا توفرت شروطها. فإذا عرض ما يجعل العمل بالحكم الكلي شاقًا أو متعذرًا فإن الشارع يعتبرها ضرورة تبيح مخالفة الأحكام الكلية، واستبدالها بأحكام أخرى استثنائية، بها يتمكن المكلف من تأدية ما وجب عليه ولو في الجملة، وتزول هذه الأحكام الاستثنائية بزوال أسبابها. فيرخص الله تعالى للمكلف أن يترك الفعل المطالب به، كأن يرخص للمريض في رمضان الإفطار على أن يقضيه بعد أيام أخر. وقد تعارف الأصوليون على تسمية الأحكام الكلية العامة التي يمكن تطبيقها في الأحوال العادية بالعزائم، وعلى تسمية الأحكام الطارئة تيسيرًا ورفعًا للمشقة بالرخص.


(١) كتاب أصول الفقه للأستاذ العربي اللوة: ص ٧١ – ٧٢، كتاب أصول الفقه الإسلامي للأستاذ محمد أبو زهرة: ص ٤٩.
(٢) كتاب جمع الجوامع لابن السبكي: ١ / ١٠٩، والمستصفى للغزالي: ج ١ / ٩٨ أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله ص ٣٢٨، أصول الفقه للدكتور حسين حامد: ص ١١١، الموافقات للشاطبي ١ / ٣٠٤.
(٣) أصول الفقه للدكتور حسين حامد حسان: ص ١١١، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: ١ / ١١٦.
(٤) التقرير والتحبير: ١ / ١٥٩.
(٥) المحلي على جمع الجوامع: ١ / ١١٩ – ١٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>