للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: رخص خاصة ومؤقتة: وهي الرخص العارضة للأفراد في حال الضرورة أو عند المشقة أو عند الحاجة، وهي الرخص التي اعتنى بها الفقهاء، بل اقتصروا عليها في تمثيل الرخصة، اعتمادًا على الكتاب والسنة. كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] . في إباحة أكل الميتة للمضطر.

وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٥] في إباحة الإفطار في رمضان بالنسبة للمريض والمسافر.

وما ورد في الصحاح من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يمسح على الخفين عوضًا عن غسل الرجلين في الوضوء)) .

الثالث: رخص عامة مؤقتة: وهذا القسم هو الذي أشار الشيخ ابن عاشور إلى أنه قسم مغفول عنه، وهو الضرورة العامة المؤقتة. وذلك كأن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها يستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سلامة الأمة أو إبقاء قوتها أو نحو ذلك. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة (١) وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وأمثلتها كثيرة منها:

١- الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع، لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة، ووفرة المصاريف لطول تبويرها؛ وزهدوا في كرائها للغرس والبناء، لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها، ولامتناع الغارس أو الباني من أن يغرس أو يبني لمدة قصيرة ثم يجبر على أن يقلع ما أحدثه في الأرض.

في مثل هذه الحالة جرت فتوى لابن السراج وابن منظور من علماء الأندلس في أواخر القرن التاسع بجواز الكراء على التأبيد، واعتبروا هذا الكراء المؤبد لا غرر فيه، لأن الأرض باقية غير زائلة، ولأن طول المدة من شأنه أن يحقق مصلحة عامة منجرة من وفرة إنتاجها، وهي راجحة على ما يمكن أن يخالط الآماد الطويلة من خطر (٢) . وكراء أرض الحبس على التأبيد قد أجازه التسولي (٣) إلى ما شاء الله من السنين. وقد جرى العمل بكراء أرض الحبس على التأبيد في المغرب ومصر والبلاد التونسية، وهو المعروف بالإنزال في تونس في اصطلاح المالكية، والكردار في اصطلاح الحنفية.

وقد جاء في مجلة العقود (٤) والالتزامات التونسية ما يدل على اعتمادها هذا الاتجاه عندما عرفت الإنزال بأنه: عقد يحيل به المالك أو ناظر الوقف حوز العقار والتصرف فيه إلى الأبد، على أن يلتزم له المستنزل بأداء مبلغ معين سنوي أو شهري لا يتغير.

٢- الترخيص في تغيير الحبس الذي تعطلت منفعته تحصيلاً للمنفعة من وجه آخر. وقد ذكر الونشريسي في المعيار (٥) فقال:

أما مسألة دار الوضوء، فإن بطلت منفعتها، وتعذر إصلاحها، ولم ترج عودتها في المستقبل، وجاز أن تتخذ فندقًا. ولذلك جاز للناظر أن يستغلها في أي شأن يعود على المسجد الجامع بالنفع البين.

٣- وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غلات الحبس الذي يتعطل عمله فيحقق بها مصلحة أخرى مشابهة. ويعتبر هذا العمل من الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة.


(١) مقاصد الشريعة: ص ١٣٣.
(٢) مقاصد الشريعة: ص ١٣٤، الحطاب: رسالة في بيع الوقف وما يتعلق بمدة الكراء، المعيار للونشريسي: ٧ / ١٣٨.
(٣) البهجة في شرح التحفة: ٢ / ١٦٥.
(٤) مجلة العقود والالتزامات: ص ٣٤٨.
(٥) المعيار للونشريسي: ٥ / ١٤٩ – ١٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>