للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إباحة الرخصة لرفع الحرج

الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج، أو من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك؟

الشاطبي يرجح معنى رفع الحرج على المعنى الآخر (١) ويستدل بجملة آيات من القرآن، ويقول: وذلك ظاهر في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] ، وفي آية أخرى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: ١١٥] ؛ فلم يذكر في ذلك أن للمترخص الفعل والترك، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم عنه.

وكذلك قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] ولم يقل فله الفطر، ولا فليفطر. وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام أخر.

وكذلك قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: ١٠١] . ولم يقل فلكم أن تقصروا من الصلاة، أو: فإن شئتم أن تقصروا.

والمراد برفع الحرج: كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال، حالاً أو مآلاً (٢) . وقد نبه الفقهاء: أن المشقة إذا كانت معارضة بما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة، فإنه لا يكون حرجًا شرعيًّا بالنظر إلى ما هو أشد منه، وذلك كالجهاد في سبيل الله دفاعًا عن بيضة الإسلام، أو نشرًا لدينه، لأن الله لما طلبه وحض عليه، أعقبه بنفي الحرج، وذلك في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] فالحرج اللاحق بالمجاهد ليس من الحرج الشرعي الموجب للترخيص، نظرًا لسمو غايته وما يترتب عليه من عظيم المصالح في حماية الدين وأهله.

ومثال ذلك أيضا المشقة المقارنة للحدود والعقوبات الشرعية (٣) .

ويتبين لنا من هذا النقاط التالية:

أولاً: إن رفع الحرج أصل كلي من أصول الشريعة، ومقصد من مقصادها، والرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي، والعامل بهذه أو بتلك لابد أنه قد اس

تند إلى دليل قطعي؛ والآيات الدالة على رفع الحرج قد بلغت مبلغ القطع، والتيسير من أصول الشريعة الإسلامية. (٤)

ثانيًا: رفع الحرج عن هذه الأمة قاعدة عامة أجمع المجتهدون على اعتبارها ومراعاتها في مناهجهم الاجتهادية.

ثالثًا: الحرج مرفوع من الأحكام ابتداء وانتهاء، في الحال والمآل، بينما الرخص تشمل عادة أحكامًا مشروعة بناء على أعذار العباد، وتنتهي بانتهائها؛ وأخرى تراعى فيها أسباب معينة تتبعها وجودًا وعدمًا.


(١) الموافقات: ١ / ٢١٦.
(٢) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ص ٤٧.
(٣) ابن حميد: رفع الحرج: ص ٤٨.
(٤) الموافقات للشاطبي: ١ / ٢١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>