ثم قال: واعلم أنا حيث قلنا بالجواز، فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة. وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقا، إذ لا طريق له إليه.
الثالث: أنه كالعامي، الذي لم يلتزم مذهبا معينا، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره.
الرابع: إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب. وإن حدث وقلد إماما في حادثة، وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه. وهو اختيار إمام الحرمين، لأنه قبل تقرير المذاهب ممكن، أما بعده فلا، للخبط وعدم الضبط.
الخامس: إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز، قاله القدوري الحنفي.
السادس: وهو اختيار ابن عبد السلام في القواعد، التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أولا. فإن كان الأول ليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه لبطلانه، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا كذلك في عصر الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة.
السابع: واختاره ابن دقيق العيد، وهو الجواز بشروط، وهي نفس الشروط التي ذكرها يحيى الزناتي من قبل.
ويظهر في كل ما تقدم أن الالتزام بمذهب معين ليس بواجب وليس في الشريعة نصوص تدل على هذا الوجوب. لكن العلماء خوفا من التلاعب بالدين وتقويض دعائم الشريعة، والقضاء على سماحتها وحكمتها، حكموا بمنع التلفيق في التقليد، سدا للذريعة لما رأوا قلة الورع، واتباع الهوى. ومنهم من أجازه بكامل الاحتياط واشترط شروطا من شأنها أن تضمن المحافظة على حكمة الشريعة وسياستها.
وعلى هذا فإن إباحة التلفيق مطلقا خطير جدا، ولاسيما في هذا العصر الذي تغلب فيه الهوى، فضعف فيه الوازع الديني، وانحط فيه مستوى الالتزام بمبادئ الشريعة وأحكامها، وكثر دعاة الإباحية والعلمانية والعقلانية. مع العلم أن غالب المتخرجين من أصحاب الشهادات لا يعتمدون على أصول صحيحة , وليس لهم تطلع بعلم الفروع ولا باع يمكنهم من الإفتاء في الدين.