للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحاصل القول: إن بطلان الرجوع عن التقليد بعد العمل، ليس بمتفق عليه، بل فيه خلاف. وإن التزام مذهب معين ليس بلازم. فقد ذكر الزركشي مذاهب العلماء في هذه المسألة، فقال:

هل يجب على العامي التزام التقليد مذهبا معينا في كل واقعة؟ فيه وجهان: قال فريق: يلزمه، وقال ابن برهان: لا، ورجحه النووي في أوائل القضاء، وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد. وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك، فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها، فلم الحجر على الناس؟

وذكر بعض الحنابلة أن هذا هو مذهب أحمد، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)) . وتوسط ابن المنير فقال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة، لا قبلهم. والفرق: أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم (١) .

ثم قال الزركشي: فلو التزم مذهبا معينا كمالك والشافعي، واعتقد رجحانه من حيث الإجمال، فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب:

أحدهما: المنع، وبه جزم الجيلي في الإعجاز، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فلا ضرورة إلى الانتقال إلا للتشهي، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين.

الثاني: الجواز، وهو الأصح، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، لأن السبب، وهو أهلية المقلد للتقليد، عام بالنسبة إلى قوله، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب، ووجوب الاقتصار على مفت واحد يخالف صيغة الأولين (٢) .


(١) البحر المحيط للزركشي: ٦ / ٣١٩..
(٢) البحر المحيط للزركشي: ٦ /٣٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>