للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا عمل بالقولين معا في حادثتين، لم يكن هذا من التلفيق الممنوع في شيء، كمن طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فأفتاه مفت بأنها بائنة منه بينونة كبرى، فأمضي ذلك وفارقها، ثم طلق أخرى ثلاثا بلفظ واحد، فأفتاه آخر بأنه طلاق رجعي فراجعها وأمسكها، يكون له امرأتان قد قال لهما قولا واحدا ومع هذا تحل له إحداهما وتحرم عليه الأخرى، ولكن هذا ليس من التلفيق القادح لتعدد النازلة.

والذين أجازوا التلفيق قالوا: لابد من بقاء الخلاف قائما فيهما حين العمل في الحادثة. والذي يرفع الخلاف في الحادثة هو حكم الحاكم المستوفي شرطه إذا كان في مسألة اجتهادية، فيكون واجب النفاذ عندئذ، ومثال ذلك إن الرجل إذا قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ثلاثا، ثم تزوجها، ورفع الأمر إلى قاض حنفي أو مالكي فقضى بصحة هذا التعليق وبطلاقها منه ثلاثا، كان قضاؤه رافعا للخلاف في هذا العقد، وليس لأحد نقضه. لكنه لو عقد عليها نفسها بعد ذلك عقدا جديدا، وكان هذا الزواج مختلفا فيه، فلا يرجع هذا الخلاف إلى القضاء الأول، لأنه في نكاح آخر، فلو رفع إلى شافعي فقضى بصحته، كان قضاؤه صحيحا. وكذلك لو رضع كبير من امرأة ثم تزوج بنتها نسبا أو بنتها من الرضاع ورفع الأمر إلى من يرى الحرمة بهذه الرضاعة، فقضى بينهما بالتفريق ولم يقض بتأبيد الحرمة، كان قضاؤه رافعا للخلاف في هذا العقد وحده دون غيره. فلو أنه عقد عليها ثانيا، ورفع الأمر إلى من لا يرى الحرمة بهذه الرضاعة، وقضى بصحة الزواج صح قضاؤه، ولا يمنعه القضاء الأول، إذ أنه كان في نكاح غير هذا النكاح (١) .

ومن المجيزين للتقليد يحيي الزناتي. قال القرافي (٢) نقلا عن الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط لا تختلف كثيرا عن الشروط التي ذكرناها قبل قليل في هذا الفصل نفسه، وهي:

١- أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع.

٢- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلد أميا في عماية.

٣- أن لا يتتبع رخص المذاهب. ثم قال القرافي وغيره: يجوز تقليد المذاهب، والانتقال إليها في كل مالا ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة: (١) ما خالف الإجماع. (٢) والقواعد. (٣) والنص. (٤) والقياس الجلي.

والذي يفهم من كلام المانعين أنهم تارة يمنعون التلفيق كلية. قال ابن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج: إن ما قاله الآمدي وابن الحاجب من أن من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتفاقا. ويظهر أن هذا الاتفاق إنما هو في صورة ما إذا بقى من آثار العمل الأول في ما يلزم عليه مع الثاني تركيب حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين. كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب، في صلاة واحدة (٣) .

أما إذا كان التركيب في قضيتين، فالذي يظهر إن ذلك غير قادح في التقليد.


(١) الهداية: ٣ /٨٧. الفروق للقرافي: ٢ /١٠٣. الدسوقي على الشرح الكبير: ٤/ ١٥٦..
(٢) شرح التنقيح: ص ٣٨٦.
(٣) تحفة المحتاج: ١ /١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>