للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: التخيير والتلفيق للعمل به في نازلة معينة، وهو النوع الذي تكلموا في منعه، والفقهاء في هذا النوع على مذاهب. فالمجيزون للتلفيق في التقليد يشترطون شروطا ثلاثة لهذا الجواز:

١- ألا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد (١) وهذا ما قاله جمهور الفقهاء.

٢- أن لا يكون موقعا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه (٢) ، وهذا الشرط نقله ابن الهمام عن القرافي، واعتمد عليه في تحريره.

٣- أن لا يلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة لا يقول بها كل من الإمامين، وصورته أن من قلد الشافعي رحمه الله تعالى في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء الغسل، وقلد مالكا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى، إن كان الوضوء بدلك صحت صلاته عند مالك رحمه الله تعالى وإن كان بلا دلك بطلت عند مالك والشافعي (٣) .

وقال جماعة: هذا الشرط لا تنهض به حجة، فإن المقلد لم يقلد كلا منهما في مجموع عمله، وإنما قلد كلا منهما في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره. ولا حرج في هذا. ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه، لا في اجتهاد ولا في تقليد، وإنما هو اختراع لحكم شرعي ممن ليس أهلا للقول به، ولله سبحانه خطابه، ولكل خطاب أثره في محله، والمجتهدون قد اختلفوا في كل حكم مختلف فيه على حدة، وقد جرى الناس منذ كان الاجتهاد على تقليد مجتهد في حكم، ومجتهد ثان في غيره، ومجتهد ثالث في حكم آخر، من غير نظر إلى العمل الذي يجمع مسائل الاختلاف. فما ذهبوا إليه ليس إلا إحداثا لأمر في دين الله.

وبعضهم اشترط أن لا يتبع الرخص ويلتقطها. وهذا الشرط وإن اعتبره الإمام النووي وغيره، فإن ابن الهمام وغيره: لم يعتبروه ولم يلتفتوا إليه.

وذكر ابن الهمام أن المقلد لا يجوز له أن يتبع غير مذهبه في غير ما عمل به. أما إذا عمل بمذهبه في أي قضية ما، فلا يجوز أن يقلد غيره فيها (٤) . فالقول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلد فيه بعد العمل به. أما إذا لم يعمل بالقولين معا، بل عمل بهما على التعاقب ولا أثر للقول، لم يكن هذا من التلفيق، وإنما يكون رجوعا عما عمل به. فمن قلد أبا حنيفة في صحة الزواج بلا ولي، ثم طلق هذه الزوجة ثلاثا فعمد إلى تقليد الشافعي في بطلان هذا الزواج، وأن الطلاق لم يصادف محلا، وقد عقد عليها عقدا جديدا، لا يكون عاملا بالقولين معا، بل عمل بالأول ثم رجع عنه مع بقاء أثره، فالقول بعدم جواز هذا ليس من أجل التلفيق وحده، بل بسبب الرجوع عما قلد فيه بعد العمل، مع بقاء أثره.


(١) شرح التنقيح للقرافي: ص ٣٨٦.
(٢) شرح المنهاج للإسنوي: ٣ /٣٥٠. التقرير والتحبير: ٣ /٣٥٠.
(٣) تحفة ابن حجر: ٤/ ٢٦٦.
(٤) ابن الهمام: التقرير والتحبير: ٣ /٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>