التيسير مسلك لدعم نفوذ الشريعة:
نفوذ الشريعة، أو بعبارة أخرى: نفاذها إلى القلوب واستهواؤها للنفوس، لا يكون إلا بعد العلم والاقتناع، والتصميم على الطاعة، والالتزام بالاتباع، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((... فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (١) .
ولا يحصل التصميم – بالاختيار – لدى المكلف، ولا الالتزام – بمحض الرغبة – في اتباع تعاليم الشرع، ما لم يحصل لدى هذا المكلف الشعور بالاستطاعة، والإحساس باعتدال هذا الشرع، ووسطيته وسماحته، بحيث تتحقق سهولة المعاملة والتطبيق لأحكامه، وتقوم على ذلك الأدلة، بمثل ما قامت في أحكام شرع الإسلام.
وقد دل استقراء الشريعة على أن التيسير والسماحة والرحمة من مقاصد هذا الدين الحنيف، وليست الشريعة نكاية، ولا تشتمل على نكاية بالأمة، ولعل هذا من خصائص شريعة الإسلام، يدل على ذلك ما حدث للأمم السابقة ولم يحدث نظيره في شريعة الإسلام، مثل ما حدث من تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل عقابا لهم على مخالفة الشريعة وإصرارهم على العصيان. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: ١٦٠ – ١٦١] .
إن الله خلق الخلق من عباده وفطرهم على الفطرة الحسنة، قال تعالى {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠] . وجعل أمور هذه الفطرة راجعة إلى الجبلة الكامنة في النفس، ومن رحمته تعالى بخلقه أن جعل شريعته التي شرع لهم على دين الفطرة، وجعل السماحة واليسر أول أوصاف هذه الشريعة وأكبر مقاصدها، وبذلك يتفق مقصد التشريع والديانة مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ويستجيب شرع الله لداعي الفطرة الحسنة ويجاريها: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: ١٣٨] .
لقد نوه حكماء المسلمين وعلماء الشريعة بما اتسم به الشرع الإسلامي من يسر أزاح كل عسر، ومن سماحة محمودة نفت كل جرح، ومن وسطية جلبت النفع والاعتدال ودفعت الضر والشطط.
وقد كانت هذه الأوصاف الثابتة في الشريعة خير ضمان لتحقيق أمور ثلاثة:
١- قبول المكلفين لأحكام الشرع عن اقتناع ورغبة، وإدراكهم لما نالهم من رحمة الخالق تعالى وهو القائل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨] .
٢- عموم الشريعة إذ وافقت الطباع ولاءمت النفوس وحققت المصالح لكافة الناس على السواء في حالي التفرد والاجتماع.
٣- ديمومتها، لأنها لم تبن على اختيارات بشرية، ولم تقم من أجل مصالح طائفية أو حزبية، أو منافع ظرفية، وإنما قامت على اعتبار مصالح العباد الثابتة فأمرت بها تنصيصا وبصورة ثابتة لا تقبل شكا ولا جدالا، وعلى اعتبار المفاسد الثابت ضرها للعباد فنهت عنها نهيا صريحا مؤكدا لا يقبل شكا ولا جدالا، ثم تركت مجالا فسيحا للاجتهاد وللعقل لينظر فيما دون ذلك من أمور معيشة الإنسان التي تعتريها شوائب من المصالح والمفاسد، أو ما يجد في الحياة من الأمور التي لم يسبق أن عرفها المسلمون الأوائل حين كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لها حكم على التحديد وإنما لها قاعدة تدخل تحتها أو عدة قواعد ترشد إلى الحكم المتعين أو الراجح.
(١) هو من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) المتفق عليه. وأوله: (دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا ...)