للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أدلة التيسير ورفع الحرج بلغت في الأمة مبلغ القطع:

لقد أصبح معلوما من تضافر الأدلة الواردة في الكتاب والسنة، أن من خصائص الشريعة الإسلامية ومن الأصول التي قام عليها تشريعها، عدم النكاية بالأمة وتيسير العمل بأحكامها على المكلفين، تحصيلا لاقتناعهم بهذا الدين، ولإقبالهم عليه دون حرج ولا ملل، لأن النفوس – عموما – قد فطرت على كره ما يشق أو يعسر لديها، كما جلبت على النفور من كل ما يضنيها أو يوقعها في العنت والحرج.

من أجل هذا جاءت أحكام هذا الدين على وفق الفطرة الحسنة، ومن أجل هذا أيضا صح أن يسمى الحنيفية السمحة، كما جاءت هذه التسمية في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (١) . والمراد أن أحب الدين إلى الله دين الإسلام الذي هو الحنيفية السمحة، والحنيفية السمحة، هكذا بهذا الوصف المكون من وصفين، أحدهما: الحنيفية وتعني ملة التوحيد، والميل عن الشركة وعبادة الأوثان، والتمسك بملة التوحيد التي هي الإسلام وهو الحنيف وجمعه حنفاء، وفي التنزيل قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: ١٣٥] . وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: ٩٥] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: ١٦١] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: ١٢٥] . وقال أيضا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) } [النحل: ١٢٠ – ١٢٣] . قال في المصباح المنير: " والحنيف المسلم لأنه مائل إلى الدين المستقيم " (٢) . وبناء على قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: ٧٨] .

وثاني الوصفين: السمحة وتطلق بإزاء معنيين: الجود والسهولة وفي المعنى الثاني جاء في القاموس المحيط قوله: " والسمحة = ... الملة التي ما فيها ضيق .... وتسامحوا = تساهلوا ... وأسمحت الدابة = لانت بعد استصعاب ... وعود سمح = لا عقدة فيه " (٣) .

وجاءت السماحة بمعنى الرفق والسهولة واللين، في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا أشترى، سمحا إذا اقتضى)) (٤) .


(١) أخرجه البخاري في الصحيح تعليقا وفي الأدب المفرد مسندا
(٢) انظر كلامه في مادة حنف
(٣) انظر: مادة سمح
(٤) أخرجه البخاري والترمذي في البيوع وابن ماجه في التجارات

<<  <  ج: ص:  >  >>