والحاصل من وصف الشريعة بالسماحة، أنها شريعة تجمع بين معان ثلاثة هي: الاعتدال والتوسط والعدل – لأنها شريعة تميل إلى سهولة المعاملة في حدود الاعتدال، ولأنها شريعة تلتزم الوسطية بين التضييق والتساهل، ولأنها بالتالي شريعة نبذت طرفي الإفراط والتفريط اللذين يدعو إليهما الهوى وحذرت منهما في مواطن كثيرة من التنزيل الحكيم، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: ٢٦] . وقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة: ٧٧] .
فما أضر بأهل الكتاب غير أهواء نفوسهم وغلوهم في الدين، وما حكاه القرآن من حالتي إفراطهم وتفريطهم كان المراد منه موعظة أمة الإسلام، ليتجنبوا الأٍسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وهلاكها. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر اليهود فيما أمرهم الله بذبح بقرة:((لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم)) (١) .
ولقد جزم علماء الأمة وحكماؤها الذين عنوا بتفحص أحوال النفوس والعقول بأن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، ومن يقل الاعتدال يقل التوسط ويقل العدل، لأن معاني الأوصاف الثلاثة لا تكاد تنفك عن بعضها، ليتكون من مجموعها نسيج فريد خص الله به دينه المعتبر عنده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: ١٩] . والدين الذي لا يقبل سواه من أحد {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: ٨٥] .
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وتوافرت في هذا الشأن، حتى بلغت مبلغ القطع، وصارت دليل الأئمة ومرتكزهم في استنباط قواعد التشريع، فاستنبطوا لهذا الأصل العظيم من الأصول التي انبنت عليها أحكام الشريعة قاعدة أصلية، هي قاعدة:" المشقة تجلب التيسير "، بما حوت من قواعد متفرعة عنها وبما اشتملت عليه من مباحث الرخصة باعتبارها قسيما لمباحث العزيمة.
(١) هكذا عده شيخ الإسلام ابن عاشور حديثا ولم يذكر راويه ولا من أخرجه. انظر: مقاصد الشريعة ص ٦٠. وذكره الشاطبي باعتباره من كلام ابن عباس رضي الله عنهما قاله في قصة بقرة بني إسرائيل. انظر الموافقات: ١ /٢٠٤. وذكره ابن كثير في التفسير بلفظ مقارب منسوبا لابن جرير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر تفسير ابن كثير