للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الأول – تعريف العزيمة والرخصة:

سنقسم هذا المبحث إلى فقرتين: الأولى نتعرض فيها باقتضاب لتعريف العزيمة وأنواعها، والثانية نخصصها لتعريف الرخصة، على أننا سنتوسع في تحليل الرخصة أكثر في المباحث القادمة بحول الله.

١- تعريف العزيمة: عرفها الشاطبي في الموافقات بأنها: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء.

وقال الآمدي: " أما العزيمة، ففي اللغة الرقية، وهي مأخوذة من عقد القلب المؤكد على أمر ما، ومنه قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: ١١٥] أي قصدا مؤكدًا (١) .

فالعزيمة لا يختص حكمها بجماعة من المكلفين دون أخرى فلقد شرعت على الإطلاق والعموم، ولا تختص بحال دون حال ولا بنوع من المكلفين دون بعض، ونفس الحكم ينطبق على الزكاة والصوم، والحج، وسائر شعائر الإسلام وكذلك المصالح التي لا غنى للإنسان عنها في الدارين، كعقود المعاوضات وأحكام الجنايات، مما يعبر عنه اصطلاحًا بكليات الشريعة.

ومعنى كونها كلية: أنه لا تختص ببعض المكلفين دون بعض، كالصلاة وجوبها لا يهم نوعًا من المكلفين خاصا يعتبر فرضها عليه هو وحده، فتجب عليه، إذا تمت مواصفات معينة، وتزول فرضيتها بزوال الشروط المطلوبة، فكليتها تنفي هذه الخصوصية، بعمومية فرضيتها على جميع المكلفين دون تمييز لا في الجنس ولا في المكان، ولا الأحوال؛ وإليه أشار جدنا الشيخ ماء العينين في نظمه لأحكام موافقات الشاطبي بقوله:

" وكونها كلية معناه: لا تختص بالبعض عن البعض جلا، يستنتج من هذا أن العزيمة أمر كلي عام شرع ابتداء، بحيث لا يستند في شرعيته على أمر سابق عليه، فتدخل في ذلك سائر شعائر الإسلام الكلية، كما يدخل فيه أيضا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع والإجارة والنكاح، وسائر عقود المعاوضات (٢) وإن سبق حكم ثم نسخ بحكم آخر كان الناسخ حكمًا ابتدائيا غير مستند على السابق، ولا يخرج عن هذا التعريف ما كان من الكليات واردًا على سبب فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك فإذا وجدت اقتضت أحكامًا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: ١٠٤] الآية، وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: ١٠٨] ، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: ١٩٨] فكل هذا عرفه الشاطبي بأنه تمهيد لأحكام وردت شيئا بعد شيء بحسب الحاجة، وكله تشمله العزيمة فهو شرع ابتدائي حكمًا، وقد يرد استثناء من حكم عمومي، ويبقى حكمًا ابتدائيا كقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: ٢٢٩] .

نكتفي بهذه اللمحة عن العزيمة لنتمكن من معرفة كيف تستخرج منها الرخصة.


(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ /١٧٠
(٢) انظر الموافقات للشاطبي ١ /٢٠٤، والمرافق على الموافق ص ٩١، والآمدي في الإحكام على أصول الأحكام، والأشباه والنظائر للسيوطي.

<<  <  ج: ص:  >  >>