للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- تعريف الرخصة:

يقصد بالرخصة: " ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة " الموافقات للشاطبي، ولقد شرح الشيخ ماء العينين من متأخري المالكية هذا التعريف بقوله: " أعني أن الرخصة هي ما شرع لعذر شاق على العباد، ويكون مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع في قول كل العلماء، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ".

فإذا كان العذر لمجرد الحاجة ودون المشقة فلا يسمى رخصة، كالقراض فإنه لعذر عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض لكن لا يسمى رخصة، وكذلك المساقاة والسلم، فكلها شرعت لعذر، لكن انتفاء المشقة فيها ينزع عنها صفة الرخصة فتدخل تحت الحاجيات وتلك لم يسمها العلماء رخصة.

وقد يتحد عمل شخصين في لحظة واحدة ولفعل واحد، فلا يعتبر عمل أحدهما رخصة، بينما تطلق الرخصة على فعل الآخر، مثل: الإمام يعجز عن الصلاة واقفًا أو يقدر بمشقة، فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس ويسمى عمله هذا رخصة، وبما أنه إمام فالحديث الشريف قال: ((وإنما جعل الإمام ليؤتم به)) إلى أن قال: ((وإن صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون)) فصلاتهم جلوسًا لم تأت عن طريق المشقة، وإنما أتت لضرورة اتباع الإمام بسبب النص المتقدم، القائل باتباع الإمام، وعدم مخالفته، فعذرهم ليس المشقة، ولذلك لا يسمى عملهم هذا رخصة.

وكونها لا تقع إلا استثناء من أصل كلي بسبب ما يجلب عمله في تلك اللحظة للمكلف من مشقة، يبين أن الرخصة ليست بمشروعة ابتداء فهي دائما تأتي استثناء من العزيمة عندما تنجم عنها المشقة وهذا يذكرنا بالحديث الشريف القائل: ((نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم)) فكل هذا قال الآمدي والشاطبي مستند إلى أصل الحاجيات، فقد اشترك مع الرخصة في بعض معانيها فيجري عليه حكمها وفي معنى كون الرخصة من بين مبررات استعمالها عند عدم المشقة قضية صلاة المأمومين جلوسًا بعذر اتباع الإمام، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام أيضا، وقال الشاطبي بأن هاتين المسألتين من أصل التكميلات لا من أصل الحاجيات، فيطلق عليهما لفظ الرخصة، وإن لم تجتمع معهما في أصل واحد.

وقد تباح الرخصة بناء على الضرورة، وليست بناء على الحاجة؛ مثل المصلي يكون قادرًا على الصلاة قائما لكن بمشقة، فتكون الرخصة في حقه للحاجة وليست للمشقة.

وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن الأمة الإسلامية من المشاق، والضرر، بسبب تطبيق عزيمة جلب تطبيقها مشقة قد تجلب مضرة، ومن خصائص هذه الملة السمحة تمكين العبد من قدر كبير من تيسير الله به، ولذلك وردت الرخص أيضا جلبًا للتوسعة على العباد، إذ يأتي نص يحمل عزيمة تضيق على المكلفين فتتدخل الرحمة واللين والسهولة التي تميزت بها الحنيفية السمحة فتمكنه من رخصة تجلب التوسعة استنادًا إلى قوله تعالى:

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦] ، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: ٢٨٦] ويرى الشاطبي والآمدي والشوكاني وابن حزم أن هذا المعنى يمكن أن يرجع إليه معنى الحديث القائل: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه)) .

فهذا الدين الحنيف أتى سهلاً سمحًا مرخصًا في تجنب كثير من المشاق التي تكبدتها الأمم السابقة، وما شرعت الرخصة إلا لتجنب مشقة جلبها تطبيق عزيمة، فهي رحمة بالعباد، وتيسير ورأفة تمكنهم من نيل حظوظهم من الرحمة وقضاء أوطارهم دون المخالفة؛ فالعزائم أتت لتذكر العباد بأنهم ملك للخالق نافذ فيهم قضاؤه، واجب عليهم اتباع ما أمر به {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: ١٣٢] فعبوديتهم تحتم عليهم التذلل له والاتباع لأوامره، مهما كانت، فليس لهم حق لديه ولا حجة عليه، فإذا وهب لهم حظا ينالونه، فذلك كالرخصة لهم؛ فالعزيمة من هذا الوجه هي امتثال الأوامر، واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم؛ كانت الأوامر وجوبًا أم ندبًا، والنواهي كراهة أو تحريما.

<<  <  ج: ص:  >  >>