للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأصبحت الرخصة هي كل ما كان تخفيفًا من شدة تطبيق العزيمة بصفتها حظا من رحمة الله أنعم به على عباده، وفي هذا الشأن تشترك الرخص مع المباح لكونهما معًا توسعة على العبد ورفعها للحرج عنه، وطريقًا لينال حظه من اللطف.

المبحث الثاني – حكم الرخصة الإباحة:

وذلك واضح من خلال نصوص الكتاب والسنة إذ الآيات رفعت الإثم عن المضطر، ولم تجعل جناحًا على المسافر إن قصر الصلاة في سفر الخوف وما قررته السنة بالنسبة للسفر كله، قال الله في كتابه العزيز: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: ١٠١] ثم أتت السنة في الحديث الذي رواه عمر فقالت: ((صدقة تصدق بها الله عليكم فلا تردوها)) .

ثم شرعت الرخصة أيضا لرفع الحرج عن المسلم في بعض المواقف التي تفرض عليه ارتكاب فعل أو قول يحرم على المسلم ولكن أجبر عليه، فتسامت به حينئذ عن المنطوق، أو المرتكب من ظاهر الفعل ليخاطب بحسب ما استقر في نفسه، قال الله في كتابه العزيز: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦] فهذا رأفة بالمؤمن رخص له الشارع في النطق بعبارة الكفر إذا خاف على نفسه، على أن يبقى قلبه مفعما بالإيمان عامرًا باليقين، متبرئا في قرارة نفسه مما نطق به لسانه، وهذه الرخصة هنا قال عنها الفقهاء: " لم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحث بحق الأصل كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: ٢٣٦] الآية، وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: ٢٣٥] وغير ذلك من الآيات المصرحة برفع الحرج عن الواقع في مخالفة نص العزيمة، ولم تأمر بضرورة استعمال الرخصة، مثل حديث: كنا نسافر مع رسول الله ومنا المقصر، ومنا المتم ولا يعيب بعضنا على بعض؛ لأنهم يتبعون قاعدة إدراك المرء في قرارة نفسه مدى استعداد جسمه لتطبيق العزيمة دون حصول المشقة فيجب اتباع العزيمة، بحصول المشقة فتسن الرخصة، والمراد بالمعنى الثاني: أن الرخصة المراد بها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عن أفراد الأمة من توفرت فيه شروط اتباع الرخصة، حتى يكون في سعة من وطأة ما يمكن أن تسببه العزيمة من مشقة يمكن أن ينشأ عنها الضرر، فيمكنه الشارع عندئذ من فرصة الاختيار، بين اتباع العزيمة والصبر على المشقة – إذا لم تسبب له المهلكة – أو الأخذ بالرخصة، ولكن إذا حصلت المضرة عند ذاك تنقلب الرخصة عزيمة وأصل الرخصة هو: الإباحة تطبيقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] ، وقوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢] .

ولو كانت الرخص مأمورًا بها ندبًا أو وجوبًا لما سميت رخصًا، ولبقيت عزائم بحيث تصبح الأوامر كلها جبرية لا استثناء فيها، مهما نشأ عنها من حرج ومشقة، ولتميزت الشريعة، لو كان ذلك بالشدة والقسوة والحرج بدل اللين والسهولة والرحمة، ووضع الفقهاء تساؤلات حول ما يمكن أن يفهم من أن الجمع بين الأمر والرخصة، جمع بين متناقضين، ثم أجابوا بما مضمونه: " لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ".

فإذا أتى الكلام مصحوبًا بسبب خاص لرفع الجناح والحرج كان لنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب، فقد يتوهم فيما هو مباح شرعًا أن فيه إثما، بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض، كما توهم بعضهم قديمًا أن الطواف بالبيت بالثياب فيه إثم حتى نزل قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢] وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك.

ومن حيث الوصول إلى الخروج من وهم التناقض الحاصل في الجمع بين الأمر والرخصة، فلابد من الرجوع بالوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخصة بعينها، لندرك أن المضطر، الذي لم يجد ما يسد به رمقه وأوشك على الهلاك، أرخص له في أكل الميتة، قصدًا لرفع الحرج، إن أجهده الجوع، وعزيمة إن خاف الهلاك، فالرخصة مأمور بها لرفع الحرج، لكن إذا كان الفعل الذي نشأ عنه الحرج والمشقة ارتفع إلى سبب للهلاك، انقلبت الرخصة الناجمة عنه عزيمة، فالمثال السابق ينطبق على هذه القاعدة، فأكل الميتة مرخص فيه لسد المسغبة المضنية وواجب عندما يصل الأمر إلى حد الهلاك بسبب الجوع.

<<  <  ج: ص:  >  >>