ليست الرخصة من الأحكام التي شرعت ابتداء لعموم المكلفين وغير مستندة إلى حكم آخر سابق عليها، أتت هي دون الارتباط به، بل على العكس من ذلك فالرخصة إضافية لا أصلية وهذا هو الأصل في أن المرء فيها فقيه نفسه، بسبب الإحساس الداخلي الذي يتولد عن طريق تطبيق العزيمة، وذلك لعدة أسباب؛ منها أن الرخصة من أسبابها المشقة، وتلك تختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان؛ فقد يكون السفر شاقا على فرد ومعه آخر في نفس الحالة لا يجد فيه أي عناء، فبالنسبة لهما واحد إن صام هلك أو أوشك على الهلاك، والثاني لا يجد فيه أي عناء، بل ربما يجد فيه قوة ولذة، فالأول تباح له الرخصة، والثاني مطالب بتطبيق العزيمة، وكذلك قصر الصلاة وبسبب ذلك ليس للمشقة ضابط معين، يمكن أن يعتبر قاسمًا مشتركًا، تباح بسبب حصوله الرخصة لكل المكلفين، بل الأمر متروك لإحساسهم ودرجات تحملهم، وحسابهم على الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولذلك إن المشاق تختلف بالنسب والإضافات، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات أيضا، وما قضية صيام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع قضاء حاجاتهم، ومباشرة أعمالهم؛ إلا دليل على أن من يستطيع تنفيذ العزيمة دون حصول المشقة الضارة كان الأفضل له الأخذ بالرخصة، وهذا معنى كون الرخصة إضافية لا نستطيع استعمالها، إلا من خلال تطبيق عزيمة شعرنا بالحرج والمشقة في تطبيقها وأيضا بحسب الظرف الزمني، فالمسافر زمن الشتاء، وفي طائرة أو سيارة، وفي مسافة معتادة ليس كالمسافر على الخيل أو الإبل وفي زمن الحر، وقلة الزاد؛ وعلى هذا رأى الفقهاء بأن الشرع أقام السبب فيها مقام العلة، فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد، وجعل كثيرًا من أحوال الرخصة متروكًا لاجتهاد المكلف، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادًا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب، وكما هو حال بعض العباد المروضين أنفسهم على تحمل الجوع فليست إباحة الميتة إليهم، على نفس درجة إباحتها لغيرهم من الضعفاء والمرضى، والإباحة المنسوبة إلى الرخص هي من باب رفع الحرج، لا من باب التخيير بين الفعل والترك، ورأى الآمدي أن هذا محل إجماع مستندًا على قول الله عز وجل:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: ١٧٣] فلم يذكر أن له الفعل والترك، بل ذكر أن له التناول في حال الاضطرار برفع الإثم، وكذلك قول الله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: ١٨٤] ولم يقل فله الفطر، ولا فليفطر ولا يجوز له الصوم، بل اقتصر على ذكر نفس العذر، وأشار بأنه إن أفطر فعليه القضاء في أيام أخر، وهذه الأمثلة منطبقة على آية القصر في الصلاة بالنسبة للمسافر، وعدة حالات أخرى مثل الإكراه.
والغاية من ذلك أن الرخصة شرعت لرفع الحرج، وذلك لا يقتضي التخيير، ولو اقتضته للزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير، وليس كذلك إذا قلنا: إنها مباحة بمعنى رفع الخرج عن فاعلها؛ إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير، ألا ترى أنه موجود مع الواجب، وإنما كان ذلك ليتبين أن العزيمة على أصلها.