وإذا قيل بالتخيير بين الرخصة والعزيمة، فإن المجال في ذلك رحب، يقول صاحب إرشاد الفحول والموافقات ما يمكن تلخيصه فيما يلي: قال بعضهم: الأخذ بالعزيمة أولى لأمور منها:
١- العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه، المقطوع به، وورود الرخصة وإن كان مقطوعًا به أيضا، فلكي يتحقق التماثل فلابد من القطعية بهذا السبب وهو شيء نسبي، يهم حالة كل مكلف على حدة لأن مقدار المباح الذي هو مناط الرخصة غير منضبط، فالمشقة المؤدية إلى الفطر وقصر الصلاة غير محدودة تحديدًا موحدًا، كما أن الصبر والتحمل إذا لم يؤد لضياع النفس أو المال محمود لقول الله عز وجل:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران: ١٨٦] ، وحث نبيه عليه الصلاة والسلام على الصبر فقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: ٣٥] ، وصيغة هذا الأمر هنا يفهم منها أنها من بين المسائل التي تكون لنا نحن أمته أسوة حسنة، وليست من الخصوصيات، ثم أتى الحث أيضا على الصبر عامًا مطلقا يعني جميع أفراد الأمة في قول الله:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى: ٤٣] .
٢- إن اعتبار المشقة في بعض الأمور يقصد منه التوسط في الأمر، فلا يقصد بحصول المشقة أن تقاس بحصولها لضعيف البنية المريض خلقة، الذي يتأثر جسمه بأضعف العوارض كما لا تقاس أيضا بالقوي، الذي لا يحس بوطأة الطوارئ إلا بعد أن تكون أهلكت غيره، فمناط المشقة هنا هو حصولها لمتوسط العادات، لأن الأمور الجزئية لا تحرم الأصول الكلية إنما تستثنى نظرًا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات، التي لا تطرد ولا تدوم (١) .
٣- إذا أخذ بالترخيص في موارده على الإطلاق، كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالعزم فيه لأن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها، مما يؤدى إن اتبع بدون حدود إلى عدم صحة التعبد، واضطراب تطبيق العزائم، وسلوك سبل الرخص حسب هوى النفس وهو مذموم وحرام.
(١) الموافقات، وإرشاد الفحول، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، وغيرهم