للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤- مراسيم الشريعة الإسلامية مضادة للهوى من كل وجه، وكثيرًا ما يتداخل الهروب من المشقة مع اتباع هوى النفس المعارض في كثير من أوجهه لمراسيم الشريعة، فصاحب الهوى يشق عليه كل شيء، فكل من نبذ هواه، وحارب نوازع النفس الأمارة بالسوء، لا يلبث يصبر على المشقة، حتى يجد في نفسه القدرة على ممارسة الطاعات تطبيقًا للعزائم، كلما داوم عليها خفت عنه مشقتها حتى يجدها اعتيادية سهلة لا تؤثر فيه بشيء، فكم من شخص صبر على الصيام بتعب، وبعد أيام اعتاده وأصبح لا يحس بمشقة منه، على أنه يجب التنبيه على أن طلب الصبر يقصد به من يجد من نفسه الطاقة على تحمل ما ينجم عن العزيمة من مشقة، لا تضر نفسه، ولا ماله، إذ بإمكانه تأدية الفعل مع شيء من الاجهاد، الذي لا تنعكس آثاره على ما قلنا.

٥- إن المشاق التي هي مظان التخفيف على ضربين:

أ- أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادًا لا يطيقه طبعًا ولا شرعًا، ويكون ذلك محققا لا مظنونًا ولا متوهمًا، فإن حصل الأول فرجوعه إلى الرخصة مطلوب، وقد تصبح الرخصة هنا حقا لله، وإن كان مظنونًا كان المطلوب البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة.

ب- الضرب الثاني: أن تكون توهمية بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة، في أنه يوجد بعد أولى، فإن كان الأول فلا يخلو أن يوجد أولا، فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف، أعني في إجراء العمل بالرخصة، لا في الإقدام ابتداء، إذ لا يصح أن ينبني حكم لم يوجد بعد، بل لا بناء على سبب لم يوجد شرطه (١) .

ومن هنا وقع الخلاف في لزوم أو عدم لزوم الكفارة لمن ظنت أنها ستحيض غدًا ففسخت نية الصوم في رمضان، والحال أنها لم تحض في ذلك اليوم، فمن العلماء من ألزمها الكفارة، ومنهم من أسقطها بناء على قول الله عز وجل: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨] .

وحاصل هذه التقسيمات أن الأفضل للمكلف اتباع العزيمة ما لم يخل ذلك بصحته أو ماله، وأن لا يستخدم الرخصة بمجرد الظن والتوهم، فالمشقة الحقيقية هي العلة التي من أجلها أبيحت الرخصة، وما عدا ذلك من الشعور بالإجهاد فهو تعب العبادة الذي أثيب عليه أصحابه وهو الصبر الذي دعت إليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فمشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها البتة، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، ومن لم يجد شرطها، فالأحسن له براءة لذمته أن يلتزم باتباع تأدية ما نصت عليه العزيمة، فكل رخصة لا يأثم المكلف إن استعملها تكون تلك التي أتت من خلال المشقة المولدة للضرر بعيدًا عن هوى النفس أو التحايل، ومن ثم ينطبق عليها قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس من البر الصيام في السفر)) وقوله: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) وقول الله في الصبر على ما دون المضرة: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] .


(١) الموافقات للشاطبي، أخذت منه هاتين الفقرتين بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>