للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ورد في تعريف الرخصة عدة تعريفات لم يسلم معظمها من الانتقاد، إما لكون التعريف غير جامع، وإما لما فيه من التورية. (١) .

والذي اختاره كثير من محققي الأصوليين أن الرخصة هي: " الحكم الشرعي المتغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي " (٢) . وفي هذا المعنى يقول صاحب مراقي السعود (٣) :

للعذر والرخصة حكم غيرا

إلى سهولة لعذر قررا

مع قيام علة الأصلي

وغيرها عزيمة النبي

(٤) .

ومن هذا التعريف نعرف أن الرخصة ليست حكمًا أصليا ولا حكما عامًّا كما هو الحال في العزيمة؛ لأن الأحكام الشرعية التكليفية قد طالبت المكلفين بأفعال، وطالبتهم كذلك بالكف عن أفعال أخرى وقد يعرض للمكلف ما يجعل التكليف شاقا غير قابل للاحتمال أو لا يمكن أداؤه إلا بمشقة غير عادية ولكن يستطيع المكلف أداءه في الجملة، فيرخص الله له ترك هذا الفعل رحمة منه لعبده ومصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] .

ذكر الإمام الشاطبي (٥) رحمه الله تعالى: أن الرخصة قد تطلق على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا دون اعتبار كون ذلك لعذر شاق كما هو الحال في القراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة، وبيع العرية بخرصها تمرًا، ونحو ذلك مما استثني من أصل ممنوع نظرًا إلى حاجة الناس (٦) .

نلاحظ هنا أن هذا النوع من الرخصة يظل مشروعًا وإن زال العذر، فيجوز للإنسان مثلاً أن يقترض وإن لم يكن له حاجة إلى الاقتراض، فهذا هو الفرق بين ما شرع من الحاجيات الكلية، وبين ما شرع من الرخص الحقيقية، فإن هذه الأخيرة يقتصر فيها على موضع الحاجة لأن شرعيتها جزئية، كالمسافر فإنه إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إكمال الصلاة ولزوم الصوم.

وتطلق الرخصة كذلك على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي يدل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: ٢٨٦] وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] نظرًا إلى أن معنى الرخصة في اللغة يرجع إلى اللين فيكون ما جاء في الشريعة الإسلامية من المسامحة واللين رخصة لهذه الأمة بالنسبة إلى الأمم الأخرى التي حملت مثل هذه العزائم الشاقة.

وقد اعتبر الإمام الغزالي إطلاق الرخصة على هذا النوع من قبيل المجاز (٧) .


(١) راجع المحصول ١ /١٢١، وشرح الأسنوي ١ /٦٩- ٧٠، والإحكام ١ /٦٨.
(٢) راجع جمع الجوامع مع شرح المحلى ١ /١١٩ – ١٢٠، والمستصفى ١ /٩٨.
(٣) هو العالم الجليل سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي واضع أرجوزة في علم الأصول وشرح الأرجوزة في كتابه نشر البنود.
(٤) راجع نشر البنود ١ /٥٥ ومذكرة أصول الفقه لأستاذنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص ٦١.
(٥) هو الإمام أبو إسحاق بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي، الأصولي المفسر له مؤلفات كثيرة أشهرها كتابه العظيم " الموافقات " ومن كتبه المهمة كذلك كتاب " الاعتصام " توفي سنة ٧٩٠هـ، راجع ترجمته في كتاب طبقات الأصوليين ٢ /٢٠٤-٢٠٥.
(٦) راجع الموافقات ١/ ٢٠٧ – ٢٠٨.
(٧) راجع المستصفى ص ٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>