للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتطلق الرخصة كذلك على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقًا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء حاجاتهم، وبيانه أن الناس كلهم خلقه وعبيده وما خلقوا إلا لعبادته بموجب قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] فيجب على العباد التوجه إليه وبذل كل ما في وسعهم لعبادته، وذلك بامتثال جميع أوامره واجتناب جميع النواهي وترك ما يشغل عن ذلك، فإذا أذن الله للعبد أن ينال حظًّا من حظوظ نفسه فإن ذلك يكون كالرخصة له (١) .

أنواع الرخص:

بعد أن عرفنا المعنى اللغوي والشرعي للرخصة، وكذلك إطلاقاتها الحقيقية والمجازية، بقي أن نشير إلى أننا باستقرائنا وتتبعنا للرخص الشرعية، تبين لنا أنها ليست على درجة واحدة، وإنما هي على أنواع مختلفة فمنها:

١- ما هو واجب، كأكل الميتة للمضطر فقد اختار الجمهور وجوبه لكونه سببًا لإحياء النفس التي هي حق الله تعالى، كما أنها أمانة يجب على الإنسان المحافظة عليها وعدم التفريط فيها ليستوفي الله حقه منها بالعبادات والتكاليف الشرعية لأن ذلك سبب خلق الإنسان حيث يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] .

ومن الأدلة على وجوب حفظ النفس قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] .

ولا شك أن من كان على وشك الموت بسبب الجوع ولا يجد ما ينقذ به نفسه سوى الميتة فيمتنع من تناولها حتى يموت فإنه يكون بمثابة من قتل نفسه.

لذلك رأى بعض العلماء (٢) أن حكم التناول هنا عزيمة وليس رخصة لأن الميتة ما حرمت إلا لخبثها، ضرورة حفظ النفس أولى مما يؤدي إلى تلفها وإن كان محرمًا فيكون الميتة هنا واجبا لا يسع المكلف الامتناع عنه، ولو امتنع حتى مات لكان آثمًا.

ومن هذا المنطلق رأى البعض (٣) أن اعتبار التناول هنا رخصة إنما هو من باب المجاز لأن الواجب مأمور به حتما لا خيرة فيه بخلاف الرخصة.

ويمكن أن نقول بأن وجوب أكل الميتة لإحياء النفس لا ينافي كون ذلك رخصة للمكلف، لأنه لم يضيق عليه بإلزامه ترك الأكل منها حتى يموت، فإذا نظرنا إلى هذا التوسيع وهذا التسهيل عليه فهو رخصة، وإذا نظرنا إلى وجوب الأكل لإنقاذ نفسه فهو عزيمة لأن الواقع بالشخص يجوز أن يكون له جهتان والله أعلم.


(١) الموافقات ١ /٢٠٧ – ٢٠٨.
(٢) قاله الكيا الهراسي من الشافعية كما في البحر المحيط.
(٣) صرح به الفخر البزدوي وهو اختيار الشاطبي، راجع كشف الأسرار ٢ /٣٢١، والموافقات ١ /٢١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>