للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضرر وضمانه في الشريعة الإسلامية:

الأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز لأحد أن يفعل فعلا يضر بآخر، فإن أضر بفعله أحدًا، فالأصل أنه ضامن، إلا في حالات سيجيء تفصيلها وإن هذا الأصل ثابت بنصوص القرآن والسنة.

فأما القرآن الكريم، فأوضح ما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٨ – ٧٩] .

النفش: هو الرعي بالليل. وروى ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الحرث المذكور كان كرما قد أنبت عناقيده، فافسدته الغنم. فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم، يعني قضى بتمليكه الغنم تعويضا عما أتلفه له، ونقل القرطبي في تفسيره أن سيدنا داود عليه السلام رأى قيمة الغنم تقارب قيمة الغلة التي أفسدت، وذهب سليمان عليه السلام إلى رأي آخر، فقال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها.

وقد أشارت الآية الكريمة إلى أنه قد اختلف نظر كل من داود وسليمان عليهما السلام في وجه الحكم في هذه القضية، دون أن يذكر القرآن الكريم تفصيل حكمهما، وقد صرح باستحسان رأي سليمان عليه السلام.

ويستفاد من التفاسير أن المقصود في رأي كل من داود وسليمان عليهما السلام هو تضمين الذي أضر بالكرم بما يقع به التعادل بين الضرر والعوض، ثم اختلفت أنظارهما في صورة هذا التعادل، ومع قطع النظر عن خصوص صورة التعادل، فإن القصة التي ذكرتها الآية الكريمة تنبئ عن مبدأ عام، وهو أن الذي يحدث ضررا بنفس الآخر أو بماله، فإنه يضمن له ذلك الضرر.

وأما السنة النبوية، على صاحبها السلام، فإن أصرح ما ورد في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) أخرجه ابن ماجة (١) وأحمد في مسنده (٢) ، وأخرجه مالك في موطئه مرسلا (٣) ، وقال البوصيري (٤) : إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت – اهـ، ونحوه في مجمع الزوائد (٥) ، ولكنّ للحديث طرقا أخر سوى ما تقدم كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (٦) .

وإن هذا الحديث الشريف قد قرر مبدأ هاما من مبادئ الشريعة الإسلامية من نفي الضرر وحرمة ما يسببه. وإن الحديث إذا تأملنا فيه، لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سببه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا الأصل بصيغة النهي الذي يدل على التحريم فقط، بل إنه صلى الله عليه وسلم ذكره بصيغة نفي الجنس، وفيه إشارة لطيفة إلى أنه كما يجب على الإنسان أن يجتنب من إضرار غيره، كذلك يجب عليه، إن صدر منه شيء من ذلك، أن ينفي عن المضرور الضرر الذي أصابه، إما برده إلى الحالة الأصلية إن أمكن، وإما بتعويضه عن الضرر وأداء الضمان إليه، ليكون عوضا عما فاته.


(١) كتاب الأحكام رقم (٢٣٤٠)
(٢) المسند ٥ / ٣٢٧
(٣) الموطأ، باب القضاء في المرفق، ٢ / ١٢٢، مع تنوير الحوالك
(٤) الزوائد، ٣ / ٤٨
(٥) مجمع الزوائد ٤ / ٢٠٥
(٦) المقاصد الحسنة، ص ٤٦٨، رقم (١٣١٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>