والمعروف أن القرآن الكريم ليس فيه تفصيلات الأحكام الفقهية، وإنما فيه بعض الأحكام يذكرها لمناسبتها ليقاس عليها، وتؤخذ تفاصيل الأحكام من السنة، واجتهادات الفقهاء، إذ القرآن ليس كتاب قانون قضائي، حتى تقتصر عليه في الأحكام القضائية، إذ مهمة القرآن أعم وأشمل، وهو كتاب هداية وإرشاد، وليس من مهمته أن يأتي بتفصيلات الأحكام، وهذه الأحكام القضائية تعتمد على اجتهادات العلماء حسب الوقائع والأحداث، فيستنبطون الحكم من الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، والسوابق القضائية في أحكام السلف وأقوالهم من الصحابة والتابعين.
والذي يجب أن نعترف به أن غلق باب الاجتهاد اثر على حيوية الفقه الإسلامي ونشاطه، ومع ذلك فإن الفقهاء على مر التاريخ بحثوا في كل المسائل التي تعرض عليهم، وأصدروا فيها أحكاما مناسبة لزمانهم مستندين على نصوص عامة وخاصة، غير أنه ليس هناك حصر وتنظيم وتقنين للأحكام والفتاوى، مما جعل بعض الباحثين يتيه في الكتب، ولا يستطيع أن يستخلص منها ضالته، ورحم الله عبد القادر عودة الذي قام بجهد مشكور، عندما ألف في القانون الجنائي الشرعي مجلدين، كانت بحق فتحا عظيما في مجال تقريب الأحكام الشرعية الجنائية، من فهم الباحثين المعاصرين، ومقارنتها بالقوانين الوضعية، فكان هذان المجلدان من اهم المراجع الآن للقضاة والباحثين، فقد غاص رحمه الله في التراث الفقهي الإسلامي، واستخرج لآلئ هي أعظم من أصالتها وبريقها ولمعانها، مما أتت به القوانين الوضعية من نظريات. وأعتقد أن مؤلف كتاب (جرائم الإهمال) الذي حظي بشهادة دكتوراه الدولة في العلوم القانونية من جامعة باريس، ودبلوم معهد العلوم الجنائية من جامعة نانسي بفرنسا، لو كلف نفسه بالاطلاع على كتاب عبد القادر عودة، أو كتاب الشيخ محمد أبو زهرة (الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي) ؛ لسهل عليه معرفة حكم الفقه الإسلامي في جريمة الإهمال، ولعرف كيف سبقت الشريعة الإسلامية أحدث النظريات فيما يتعلق بالموضوع الذي يبحثه.