للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: (وإنه بعد استعراض الآراء المختلفة والمناهج المختلفة، ننتهي بلا ريب إلى أن فقهاء المسلمين قد سبقوا إلى دراسة الموضوع دراسة وافية من كل ناحية، حتى الأمثلة التي يسوقها العلماء في الفقه الحديث هي بعض الأمثلة التي ذكرها فقهاء المسلمين قديما، ولعل النقل الذي نقلناه عن ابن حزم يوضح تمام التوضيح كيف كان يربط ابن حزم بين الترك والجريمة ربطا يجعله سببا بها، وكيف يكون بفرض العمد والخطأ، وهو نص لم نظفر بمثله موضحا مبينا محررا في الكتب التي تصدت لبيان وضع هذه الجريمة في القوانين الحديثة، وأنا لهذا اسجل سبق المسلمين إلى تحرير هذه الجريمة بما لم يسبقوا بمثله، وأنه بالمقارنة بالفقه الحديث والفقه الإسلامي، نجد الفقه الحديث يتلاقي مع مذهب أبي حنيفة في الجملة، فأبو حنيفة لم يعتبر أن الجريمة بالترك تكون عقوبتها كعقوبة الجريمة بالفعل، وإن كان يفرض لها عقوبة، ولا يخليها من معني الإجرام، ولذلك يقرر فقهاء المذهب الحنفي، أن من يكون في بادية، ومعه فضل ماء، وبجواره شخص لا ماء معه، ويغلب على ظنه أنه سيموت أن لم يشرب من ماء صاحب الماء، وامتنع الآخر عن سقيه فقاتله فقتله، فإنه لا دية له؛ لأن المنع اعتداء، فكان طالب الماء حاله حال المعتدي عليه، وهذا يدل على أن أبا حنيفة يعتبر الترك إجراما، وإن لم تكن عقوبته هي عقوبة الفعل في الجريمة. والفقه الألماني يتقارب مع مذهب مالك والظاهرية، وإن كان دونهما لأنه اعتبر الترك جريمة إذا كان تركا لواجب قانوني، بينما هذان المذهبان وغيرهما لا يفرقان على تركه تعريض حياة للتلف، يتحول إلى واجب قضائي، وإن ذلك مقرر حتى في مذهب أبي حنيفة، فإرضاع الأم لولدها واجب ديني عليها؛ ولكن إذا كان الولد لا يلقم إلا ثديها، أو لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به ظئرا لترضعه. ويخشى على الولد الهلاك، فإن ذلك الواجب ينتقل من الواجب الديني المجرد إلى الواجب القضائي الذي يحكم به القضاء، ونرى من هذا تعميما في الفقه الإسلامي لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق) (١) .

يلاحظ أن القوانين الوضعية في هذا المجال تفرق بين واجبات إنسانية خلقية، وواجبات قانونية، فإذا كان الذي ترك يملك الترك بحكم القانون لا يعد قاتلا، وإن كان الذي ترك لا يملك الترك بحكم القانون، كترك السرة من غير ربط، يعد قاتلا، إما في الشريعة الإسلامية فإن من يرى إنسانا متعرضا للأذى عليه أن يعمل كل ما في طاقته لمنع الأذى، لا فرق بين الماء والزاد والافتراس، وقد ثبت ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)) ، ويقول الراوي: ثم أخذ يعدد الأصناف حتى ظننا أنه ليس لنا حق في فضل أموالنا، وكان ذلك في سفر. فالإسلام أوجب التعاون، وأوجب كل فعل فيه إنقاذ للنفس البشرية، ودفع الأذى عنها.


(١) الجريمة للشيخ أبو زهرة

<<  <  ج: ص:  >  >>