هذه الأمثلة مع وضوح الحكم فيها إلا أن هناك من القضاة من تبنى فكرة المباشرة بصورة جامدة، ويتأثر نتيجة الضرر إذا كان جسيما وخاصة في حالة الوفاة فيحرص بعض القضاة أن يحكموا بالدية في حالة الوفاة نتيجة حوادث السيارات انطلاقا من مبدأ "لا يبطل دم في الإسلام" وهو مبدأ صحيح، ولكن ليس من عدل الإسلام أن يتحمل الدية من ليست عليه مجرد المباشرة. وبعضهم يحتج بأن النائم إذا وقع على إنسان فقتله يضمن الدية مع أنه ليس له اختيار. وواضح أن هذه المسألة تختلف عن حوادث السيارات، فإن هذه مباشرة بدون واسطة، وفى إمكان النائم قبل أن ينام أن يتحرى ما يمكن أن يحدث لما يصدر منه أثناء نومه فلا يؤذي أحدا، والقتيل في حالة وقوع النائم عليه لم يكن من قبله نشاط أدى إلى حدوث القتل، ونستطيع أن نطبق مبدأ "لا يبطل دم في الإسلام" في حالة ما إذا كان فاعل القتل مجهولا وتعذرت معرفته أو تعذر الحصول عليه، فعند ذلك تتحمل الدولة أو بيت المال الدية، فالأصل أن يتحمل الجاني أو عاقلته الدية فإذا تعذر ذلك يتحمل بيت المال الدية، فلو أن سيارة مجهولة صدمت شخصا ولم يتعرف عليها فإن الدولة هي التي تضمن الدية.
ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل رجل في زحام فاستشار عمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي:(لا يبطل دم في الإسلام) فوداه عمر من بيت مال المسلمين وحول وجوب الدية على بيت المال. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: الكلام في هذا يحتاج إلى بحث ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إذا كانت الدية على العاقلة ولم يكن ثمة عاقلة، لا من عصبة نسبية ولا سببية ولا موالاة – عند من يقول به – أتجب الدية في بيت المال باعتباره عاقلة من ليس له عاقلة، قال بعض التابعين وأبو حنيفة والشافعي تجب الدية في بيت المال، وبنوا ذلك على ثلاثة أمور:
أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع دية الأنصاري الذي قتل بين اليهود من بيت المال، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودى رجلا قتل في زحام من بيت المال، وقد أشار عليه بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال له:(لا يبطل دم في الإسلام) .
ثانيها: أن ميراث من لا وارث له يؤول إلى بيت المال، فيكون عليه تبعة بهذا الاعتبار، إذ أن الغرم بالغنم، وحيث آل ماله إذا مات يكون مسؤولا عما يرتكب مما ولا يعترض على هذا بأن تركات أهل الذمة تؤول إليه، فهل يتحمل دياتهم؟ ونجيب عن ذلك بالإيجاب فإنه لا يبطل أيضا دم أحد ممن يستظلون بالراية الإسلامية، ويتحمل التبعة عن كل فعل لا يتحمل تبعته أحد ويكون فيه تعويض للأرواح المقتولة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما دفع دية الأنصاري كان يدفع الدية عن الذين تحملوها من اليهود.
ثالثها: أن الدولة مسؤولة بمقتضى التكافل الاجتماعي عن كل دم، حتى لا يذهب دم هدرا.
والذين أوجبوا الدبة عن بيت المال أوجبوها في بيت مال الضوائع التي تؤول إليه التركات التي لا يعرف لها وارث، فكانت ضامنة بهذا الاعتبار، وهذا رأي أبي حنيفة، والشافعي، والحنابلة لا يوجبون ذلك وقولهم غير راجح.
الأمر الثاني: الذي يجب بحثه، أنه إذا لم يمكن أداء من بيت المال أيذهب الدم هدرا؟ قال بعضهم: يذهب الدم هدرا، إذ لا يوجد من يلتزم، ولكن الحق أنه لا يسقط، وهو القول الآخر، بل يستمر الوجوب عن بيت المال وغيره؛ لأن التقصير في الأداء لا يسقط الدين، بل تجب الدية عن القاتل، وإن لم يكن عنده استمرت عن بيت المال، والأداء واجب عليه حتى يؤدي.