للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمتظاهرتان عليه في الآية هما أما المؤمنين عائشة وحفصة ((أسر إلى إحداهما أنه حرم على نفسه العسل، وقيل: إنه حرم على نفسه جاريته مارية)) ، فأفشت سره إلى الأخرى (١) ، فأنزل الله تعالى الآيتين وجعل إفشاءهما لسر رسوله جرماً ينبغي المسارعة إلى التوبة منه، وهكذا أدبهما الله تعالى بهذا الأدب الجم فأحسن تأديبهما.

كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، أو تفضي إليه ثم ينشر سرها)) (٢) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة)) (٣) .

وعن ثابت عن أنس قال: ((أتى علي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك)) (٤) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((احفظ سري تكن مؤمناً)) .

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن إفشاء الأسرار يعد من الكبائر (٥) ، وكان الخليفة الفاروق رضي الله عنه يختص المتميزين من الصحابة بالعلم والإيمان والرأي، فيختارهم ليكونوا أهل شوراه، وأدخل فيهم عبد الله بن عباس، على صغر سنه، فجعله من المقربين إليه، فقال له أبوه العباس: (إني أرى هذا الرجل قد اختصك بمجلسه، فاحفظ عني ثلاثاً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً) ، فقال رجل للشعبي: كل واحدة منهن خير من ألف، فقال: بل كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف.

من هذا نستنتج أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بحفظ الأسرار وكتمانها وعدم إفشائها؛ لدوام الألفة ولصون حقوق الإنسان.

(وسر المهنة) أصل عميق الجذور من أصول المهنة الطبية، وقيمة من قيمها المطلقة التي لم تترك لتقدير الطبيب أو لاجتهاده أو استحسانه في كل حالة على حدة، وهي تلتقي تماماً مع تعاليم الإسلام، فهي بالإسلام تتقوى وتزداد رسوخاً.

والتفريط فيها يقوض صلاح المهنة الطبية، فيحرم الإنسانية مما لا غنى لها عنه، وفي هذا بلاء خطير وشر مستطير وخسارة فادحة.

إن قدسية سر المهنة الطبية تراث موغل في القدم، حصلته المهنة حتى في أدوارها الباكرة، ولا زالت تحرص عليه حتى الآن.


(١) أصل القصة في البخاري المظالم ب ٢٥، ك النكاح ب ٨٣
(٢) صحيح مسلم ص ١٠٦ حديث رقم (١٤٣٧)
(٣) الترمذي في سننه شرح العون ٦/ ٩٢- ٩٣
(٤) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ص ١٩٢ رقم الحديث (٤٢٨٢)
(٥) الكبائر لابن حجر العسقلاني ٢/ ٢٧

<<  <  ج: ص:  >  >>