وإذا كانت للمبادئ أو القواعد هذه الفائدة الفنية للمختصين في الفقه، فإن من فوائدها لغيرهم كالطبيب وأمثاله، تكوين الإلمام السريع بجوانب الموضوعات التي تنظمها تلك القواعد –أو المبادئ- وتيسير التعرف إلى الأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها في مجال الممارسة من خلال منهج وسط، لا هو مسلك الاستنباط المستوعر على غير من له ملكة فقهية وأهلية اختصاصية تتيح له الاستقلال في النظر وبذل الجهد الفكري، ولا هو المنهج البدائي لتلقي الأحكام المنثورة من غير أن ينتظمها أصل تنضوي تحته، وهو منهج لا يغني سالكه عن دوام التلقي الحرفي واستمرار الحاجة للتلقين..
إن هذه المبادئ وإن كانت لها تطبيقاتها العامة في شتى المجالات، يعتبر التطبيق الدقيق والاستثمار الخطير لها متمثلاً في مجال التطبيب والعلاج، لخطورة آثار التسويغ أو المنع من حيث صلتها بمقصد من مقاصد التشريع هو (حفظ النفس البشرية وسلامتها) ، وهو في عداد (الضروريات) المعتبرة من أهم مقاصد التشريع الإسلامية.
وإن كانت سلامة التطبيق لا تتاح في الميدان النظري، بل تفتقر إلى من يملأ ثغرات التصوير الصحيح، ويرجح أقوى الاحتمالات الدائرة في كل أمر من الأمور قبل اللجوء إلى عنصر التجربة أو مقتضى المقولات المحتكم إليها في كل اختصاص.
لذا فإن من أهداف هذا البحث –وأمثاله- زيادة الوشائج التي تصل بين الفقه والطب، وتسهل تناول الفقه المحتاج إليه للأطباء خاصة أو غالباً، إذ لا بد أن توضع بين أيديهم –بالإضافة إلى البيانات المباشرة لبعض التصرفات- المبادئ (القواعد والضوابط) التي هي النبع الثري للتطبيقات، وبها يسهل لهم أيضاً أن يولوا الأهمية للعناصر المؤثرة في وضع التصورات الصحيحة التي لا يقدر طرف واحد على تولي الفصل فيها، وبمثل هذا التعاون يتحقق الوصول إلى معالم الطب الإسلامي ذي الخصائص المميزة له كعلاج للروح والبدن معاً، ومظهر من مظاهر العدل والإحسان والتعاون على البر والتقوى.
لقد اشتملت الشريعة الإسلامية (وما صدقته من سابق الشرائع السماوية) على مبادئ وقواعد تنبري أحياناً للحض على اجتلاب المصالح، وتنهض أحياناً لدرء المفسدة واجتناب المضار، فإذا كان الضرر عصيا عن الإزالة إلا مع أثر يخلفه أجريت الموازنة بين الضررين للركون إلى أخفهما.. وفي ثنايا هذا المبدأ جملة من القواعد الدقيقة التي تفرز الأضرار بحسب متعلقاتها من الضروريات والحاجيات وبحسب درجتها من الخصوص والعموم..