للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا كله إذا كان على سبيل التبرع؛ لأن المبدأ أنه:

(يغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في المعاوضات) :

أما إن كان ذلك على سبيل المعاوضة نظير بدل، فإنه تصرف يثير كثيراً من الحرج والشبهة بالحرام، جرياً على أن أجزاء الآدمي ليس لها مالك إلا الله تعالى، فليست مما يباع ويشترى. وقد بلغ التحرز ببعض الفقهاء أن يفسروا بيع لبن المراضع بأنه استئجار لشخص الظئر (المرضع) والانتفاع بلبنها أمر تبعي؛ مع أنه مما فصلت في شرعيته النصوص الصريحة رعاية لضرورة حفظ الأنفس، وما اللبن هنا إلا أجزاء مبانة بصورة طبيعية عن بدن المرضع، ولا نفع مقصوداً لجسدها منه، فكأنه مما استودعها الله إياه لنفع الرضعاء.

ولا يتنافى مع حظر المعاوضة عن هذا البذل أن يقبل الباذل ما يكافأ به من غير مشارطة ولا مواطأة، لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: ٦٠] ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم: - بالرغم من ضعفه - ((من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له)) فهو مما تشهد له قواعد الشريعة العامة.

كما يملك أولو الأمر تخصيص مكافآت تشجيعية لا مشارطة فيها ولا التزام، للترغيب في هذا اللون من الإحسان وفعل الخير، أو للمعونة على ترميم آثاره على الجسم، كتشجيعهم على أشباه ذلك من الأعمال المندوبة أو الواجبة لكونها من الطاعات المفروضة أو مما ينبغي احتساب الأجر فيه.

وأخيراً ليست هذه المبادئ كل ما يتصل بموضوعنا، وهي أيضاً لا يقتصر تطبيقها عليه، بل هو أهم مجالات استثمارها والاستنارة بها في تكوين الإلمام بمنحى الشريعة في هذه الأمور عن طريق وسط بين تلقي الفروع المجردة، أو التوسع غير الميسور في غمار الأدلة ومقتضاها؛ و (كل ميسر لما خلق له) وإتقان العلوم والمعارف والحرف والصناعات كلها مما فرضه الله على جماعة المسلمين، بإزاء ما عم بفرضيته كل مسلم من طلب العلم بما تقتضيه حاله وتمس إليه حاجته في حياته ومهنته بعد الفرائض العينية المعروفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>