للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقبل أن أدخل في صلب الموضوع المعروض للبحث أود أن أمهد ببيان عدد من الأمور:

الأمر الأول- التكييف الفقهي للنقود الورقية:

منذ أن شاع استعمال النقود الورقية وهي مثار نقاش بين العلماء المسلمين هل هي أثمان أم فلوس؟ وقد قرر بعضهم أنها فلوس، بناء على أن الثمنية الحقيقية عندهم إنما تكون في الذهب والفضة، وكان معتمد بحثهم ما قاله العلماء السابقون في شأن الفلوس، فأعطاها بعضهم ما للفلوس من الأحكام، وقرر بعضهم أنها مستندات ديون وبعضهم أكد على ثمنيتها وأنها قائمة مقام الذهب والفضة.

وهذا الخلاف له ما يبرره؛ ومرده إلى التطورات التي مر بها الورق النقدي، فإنه في أصله ليس ثمناً وإنما ثمنيته بالاصطلاح، إضافة إلى أنه في أول ظهوره كان مغطى بالذهب والفضة، وكان يكتب عليه ما يفيد أنه سند بقيمته من الذهب أو الفضة، ثم بعد ذلك زال الغطاء جزئياً ثم كلياً، ولم تعد هذه النقود الورقية متعلقة بالذهب ولا بالفضة من قريب ولا بعيد، وأصبحت هي أثمان الأشياء ووسيط التبادل في المعاملات، والقول بأنها فلوس، تخرج عن الثمنية بالغلاء والرخص شأن الفلوس في الأزمنة السالفة قول غير صحيح ويترتب عليه مفاسد كبيرة في الدين والدنيا (١) ذلك أنه لابد للناس من أثمان تقدر بها السلع والخدمات، وتكون واسطة للتبادل حتى تتيسر معاملاتهم ويرتفع الحرج عنهم، ولم يعد الذهب ولا الفضة نقداً أصلاً، وهذه الأوراق النقدية فيها خصائص الثمنية، وأصبح إصدارها مضبوطاً بضوابط معينة وتتولاه جهات مسؤولة، وتعمل الدول على حماية نقدها بالتدابير الاقتصادية، ومكافحة التزوير، وترقيم العملات، وسرية العلامات التي تضعها في النقد ضماناً لعدم تزويره، إلى غير ذلك مما لا يخفى في الحياة المعاصرة، وتستخدم هذه النقود في المبادلات والحقوق اليسيرة والكبيرة، وهذا يجعلها تختلف اختلافاً كبيراً عن الفلوس المعهودة في الأزمنة السالفة، والتي لم تكن لها من الثمنية ما للذهب والفضة، وكانت تتعرض للكساد، ولإبطال الحاكم لها كثيراً، كما أنها في كثير من الأحيان إنما تستعمل في الأشياء الحقيرة التافهة، ويترتب على القول بأنها فلوس إباحة الربا فيها عند بعض العلماء وعدم وجوب الزكاة في عينها، إلى غير ذلك، فلا وجه لقياسها على الفلوس المعهودة فيما مضى وإعطائها حكمها، بل هي أثمان يجري فيها الربا وتجب فيها الزكاة وتصلح رأس مال في السلم والشركات.


(١) انظر على سبيل المثال: الشيخ عبد الله بن منيع: الورق النقدي ص ١١٣- ١٢٧، وستر الجعيد: أحكام الأوراق النقدية والتجارية، رسالة ماجستير في جامعة أم القرى عام ... ص ١٤٤- ١٩٦، ٤٣٦-٤٦٦، وانظر البحث القيم لفضيلة الدكتور محمد تقي العثماني بعنوان أحكام أوراق النقود والعملات المقدم لندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة عام ١٤٠٧هـ، ص ٨-١٧

<<  <  ج: ص:  >  >>