للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولئن كانت وظائف النقود أصرح في كتابات رجال الاقتصاد الحديث، إلا أن علماءنا لم يجهلوا معناها، ولعل أبرز من اقترب من وظائفها من علماء المسلمين ابن خلدون (٨٠٨هـ) ؛ إذ يقول:

(إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول، وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتني سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما، لما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق = (تغير الأسعار) التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة) (١)

فعبارة (قيمة لكل متمول) يبدو أنها تعني أن النقود مقياس للقيمة، وعبارة (الذخيرة) ربما تعني أن النقود أداة ادخار وسيولة ومستودع للقوة الشرائية، وعبارة (القنية) قد تعني أن النقود وسيط مبادلة ودفع، فبها نشتري الأشياء ونقتنيها.

ومن المبادئ التي يتفق فيها رجال الفقه مع بعض رجال الاقتصاد (كالاقتصادي الفرنسي: موريس آليه) ، أن إصدار النقود وظيفة من وظائف الدولة، وإليها تعود أرباح إصدارها، فهذه الأرباح جزء من الدخول التي تعتبر من حق الجماعة، لا من حق الأفراد.

ومن المبادئ التي يتفق فيها رجال الفقه والاقتصاد مبدأ الثبات النسبي لقيمة النقود = (قوتها الشرائية) يقول ابن القيم (٧٥١هـ) : (الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً، لا يرتفع ولا ينخفض) (٢) هذا هو شأن المقاييس والمكاييل والموازين.

وفي التاريخ الاقتصادي الإسلامي، حدثت نقلة نوعية كبيرة، عندما تم الانتقال من النقود الخلقية إلى النقود الاصطلاحية، ونقلة نوعية أكبر عندما تم الانتقال من النقود الخالصة إلى النقود المغشوشة، فكانت هناك دراهم مغشوشة، وفلوس، ومع ما لقيته هذه النقلة من هجوم، لعل أبرز قادته هو المقريزي (٨٤٥هـ) ، إلا أن أمر هذه النقود في الواقع كان أقوى من أمرها في الفكر، فعمت البلوى بهذه النقود، وصار الفقهاء أمام ضغط واقعي جديد، هو تغير = (اختلاف) هذه النقود، التي هي معرضة للإبطال والكساد، كما هي معرضة للرخص والغلاء، وكان في طليعة من اهتموا ببيان أحكام هذه النازلة الجديدة: السيوطي (٩١١هـ) في رسالته: (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) (والمعاملة في اصطلاح الفقهاء هي العملة في اصطلاح الاقتصاديين) ، وابن عابدين (١٢٥٢هـ) في رسالته: (تنبيه الرقود على مسائل النقود) .


(١) المقدمة: ٢/ ٨٠٩
(٢) إعلام الموقعين: ٢/ ١٣٧

<<  <  ج: ص:  >  >>