إلا أن الظاهر أن المورد مورد قرض ذلك أن من خصائص الوديعة أن تبقى كما هي بعينها ولا يمكن التصرف فيها خصوصا بما يفوت ذاتها –بإجماع المذاهب الإسلامية- إلا ما ينقله عن المالكية حيث اعتبروا ذلك مكروها، وخاصا إذا كانت الوديعة من الدنانير والدراهم أي من النقود. هذا في حين نجد البناء منذ البدء على أن يقوم البنك بالتصرف المطلق في أموال الحساب الجاري تماما دونما حرج أو استثناء، وإنما هو أمر طبيعي جدا ولا يتخذ البنك فيه حالة انتهازية –كما يعبر- أما احتياطه في التصرف في أموال الحساب الجاري فهو تابع لطبيعتها الجارية ولزوم توفير سيولة نقدية في كل آن للاستجابة لاحتمالات السحب في كل آن وإلا تعرضت سمعة البنك للخطر لا بل أمكنت المطالبة القانونية له فحتى على مذهب المالكية لا يمكن تكييف وديعة الحساب الجاري على أساس أنها وديعة وإنما تجب الصيرورة إلى أنها قرض كامل لأن التصرف ليس استثنائيا.
أما مسألة النية (نية الإيداع) فهي في الحقيقة ناشئة من عاملين:
الأول: كونها كذلك في البنوك الربوية.
الثاني: أنها تقرب من الوديعة باعتبار إمكان استيفائها كاملة في كل آن، وبما يصاحب ذلك من الحفظ والصيانة فهي تؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤدي إليها الاستيداع تماما إلا أن هذه النية لا تنسجم مطلقا –عندما يراد تكييف العقد شرعا- مع علم الطرفين بأن هذه العين المالية بمجرد تسليمها سوف تقع تحت التصرف الكامل للبنك، وهذا إنما ينسجم مع القرض لا الإيداع، حتى لو وضع عليه عنوان الإيداع ذلك نظير الإيداعات الثابتة التي لا سبيل فيها في البنوك الربوية إلا إلى القرض حتى ولو تمت تحت عنوان الإيداع.
فالعبرة في العقود للمقصود والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولو قبلنا أنها ودائع كان علينا أن نقول: إن التصرف الذي يقوم به المصرف إما أن يكون ناقلا بذمته وإما أن يبقى مجرد تصرف في مال المودع، فإذا كان ناقلا بذمته فمعنى ذلك الاستقراض، وهذا ينسحب على مجمل الوديعة من الأول؛ لأن البنك يقصد من الأول ذلك وفق العقد الأول باعتباره يتصرف من أموال الحسابات الجارية كمالك كامل – بل إن المصارف إنما تقدم على فتح الحسابات الجارية وتقديم خدماتها- وهي لا تتقاضى على ذلك أجرا عادة، ويعتبر ما تتقاضاه بعض البنوك علامة على ضعفها بلا ريب –إنما تقدم لتستفيد من السيولة النقدية التي توفرها الحسابات الجارية.