وقد تقدم في مبحث (بداية الحياة الإنسانية) أقوال العلماء في هذه الآية، وتفسيراتهم لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل في محصلته على أن هذا الدليل ليس فيه الكفاية لاعتبار الروح من الغيبيات التي لا تقع تحت طول الاجتهاد البشري، ولا يجوز له أن يحوم حولها.
ولسنا بمضطرين لتكرار ما أثبتناه هنالك، فيمكن الرجوع إليه وإلى المصادر التي أخذ منها، ولكنا نذكر مرة أخرى بأن كثيرًا من العلماء بحثوا في الروح، وألفوا حولها المؤلفات، وتكلموا عن صفاتها ونشاطها وأثرها في جسم الإنسان، وأثر الجسم عليها وغير ذلك، غير خائفين من الوقوع في التعارض مع النصوص مع تدينهم وحرصهم الفائق على الالتزام بمقتضيات الهدي القرآني والنبوي، حتى صرح بعضهم بأن الروح ليست من الغيب الذي يحرم الكلام فيه، وحتى الذين ذهبوا إلى حمل النص القرآني على إرادة الروح الآدمية، والنهي عن الكلام فيها بأكثر مما ورد في ذلك النص صرحوا بأن المقصود بذلك هو البحث في كنه الروح وذاتها، ولم يمنعهم ذلك الحمل تناولها من جوانب أخرى، بصورة قد نستفيد منها في بحثنا هذا حول تحديد نهاية الحياة الإنسانية.
ومما يدل على سلامة منهج أولئك العلماء الذين تكلموا في الروح وفصلوا القول في كثير من شؤونها؛ أنهم أرجعوا كلامهم في الروح إلى نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمنها أخذوا حقيقة أنها مخلوقة وليست قديمة، ومنها أخذوا مبدأ دخولها في الجسد الإنساني، ومنها أخذوا كثيرًا من أحوالها، مما يشير إلى أن الروح التي أمر الرسول بالاقتصار في الكلام عنها على القول {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، ليست هي الروح الآدمية، أو أن المقصود بهذه الجملة ليس النهي عن أي بحث في الروح، وإنما البحث عن حقيقة ذاتها، وإلا ألبسنا النصوص ثوب التناقض من غير قصد، أعاذنا الله من الخطأ في فهم كلامه، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لو فهم أن المقصود بقول الله تعالى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأنه لا تجوز الزيادة في الكلام عن الروح عن هذا الجواب الرباني، لالتزمه بتوجيه ربه، ولما بَيَّن في أحاديثه الشريفة بيان يزيد عن ذلك، غير أننا وجدناه صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أشياء كثيرة عن الروح، كمبدأ تعلقها بالجسد، وتآلفها وتعارفها، وتناكرها واختلافها وكيفية خروجها من جسد المؤمن، ومن جسد الكافر، وغير ذلك؛ فدل هذا على ما أسلفنا.