للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانياً: أن الشريعة الإسلامية الغراء مبناها على رفع الحرج ودفع المشقة، وتحقيق اليسر والمصالح للأمة، فقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] ، وهذا المبدأ من الوضوح ما لا يحتاج إلى دليل، بل هو مقصد من مقاصد الشريعة.

وبناء على هذا الأصل العظيم أبيحت المحظورات للضرورة، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] .

وكما أن الضرورة مرفوعة كذلك نزلت الحاجة منزلة الضرورة، يقول السيوطي، وابن نجيم وغيرهما: " الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت، أو خاصة " ولهذا جوزت الإجارة والجعالة، ونحوها (١)

يقول الشيخ أحمد الزرقاء: "والمراد بالحاجة هي الحالة التي تستدعي تيسيراً، أو تسهيلاً لأجل الحصول على المقصود فهي دون الضرورة من هذه الجهة وإن كان الحكم الثابت لأجلها مستمراً، والثابت للضرورة مؤقتاً ... " (٢)

ومن الأمثلة الفقهية لهذه القاعدة ما أجازه فقهاء الحنفية من بيع الوفاء مع أن مقتضاه عدم الجواز؛ لأنه إما من قبيل الربا، لأنه انتفاع بالعين بمقابلة الدين، أو صفقة مشروطة في صفقة كأنه قال: بعته منك بشرط أن تبيعه مني إذا جئتك بالثمن، وكلاهما غير جائز، ولكن لما مست الحاجة إليه في بخارى بسبب كثرة الديون على أهلها جوز على وجه أنه رهن أبيح الانتفاع بثمراته ومنافعه كلبن الشاة، والرهن على هذه الكيفية جائز. (٣)

ومن هذه الاجتهادات ما ذكره ابن عابدين أن مشايخ بلخ، والنسفي أجازوا حمل الطعام ببعض المحمول، ونسج الثوب ببعض المنسوج لتعامل أهل بلادهم بذلك، وللحاجة مع أن ذلك خلاف القياس، وأن متقدمي الحنفية صرحوا بعدم جوازه (٤) وذكر أيضاً أن بعض قدماء الحنفية لما سئلوا عن النسبة المئوية التي يأخذها السمسار مثل ١٠? قالوا: ذاك حرام عليهم، وإنما يجب لهم أجر المثل. بينما أجازه بعضهم مثل محمد بن سلمة حيث سئل عن أجرة السمسار فقال: أرجو أنه لا بأس به –وإن كان في الأصل فاسداً- لكثرة التعامل، وكثير من هذا غير جائز فجوزوه لحاجة الناس إليه ... (٥)

ولهذه القاعدة أدلة عملية من السنة المشرفة، منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح بيع العرايا (٦) مع أن أصلها يدخل في باب الربا، حيث لم يجوز صلى الله عليه وسلم بيع التمر بالرطب (٧) لوجود النقصان، وعدم تحقيق التماثل الحقيقي، ومع ذلك أباح العرايا لحاجة الناس إليها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأباح بيع العرايا ... عند الحاجة مع أن ذلك يدخل في الربا ... " (٨) ويقول أيضاً: " الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم" (٩) ويقول: "والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه في البيع لأجل نوع الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك" (١٠)


(١) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (٩٧ – ٩٨) ؛ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (٩١ – ٩٢) .
(٢) شرح القواعد الفقهية، تأليف الشيخ أحمد الزرقاء، رحمه الله، ص (١٥٥) ط. دار الغرب الإسلامي.
(٣) شرح القواعد الفقهية، تأليف الشيخ أحمد الزرقاء، رحمه الله، ص (١٥٥) ط. دار الغرب الإسلامي.
(٤) حاشية ابن عابدين، (٥/٣٦ –٣٧) . ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(٥) حاشية ابن عابدين (٥/٣٩)
(٦) انظر حديث ترخيص بيع العرايا، لحاجة الناس إليها: صحيح البخاري –مع الفتح- (٤/٣٩٠) ؛ ومسلم (٣/١١٦٨) ؛ وأحمد (٥/١٨١) ؛ والعرية هي بيع الرطب فوق النخل بالتمر بالتخمين والتقدير.
(٧) فقد سئل عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟) فقيل: نعم، فقال: (فلا إذن) انظر: مسند الشافعي ص (٥١) ؛ وأحمد (٣/٣١٢) ؛ والترمذي (١/٢٣١) ؛ والنسائي (٧/٢٦٩) ؛ وابن ماجه (٢/٧٦١) ؛ وسنن أبي داود (٣/٢٥١) ؛ والسنن الكبرى (٥/٢٩٤) . ويراجع تلخيص الحبير (٣/٩/١٠) .
(٨) مجموع الفتاوى (٢٩/٢٢٧) .
(٩) مجموع الفتاوى (٢٩/٢٢٧)
(١٠) مجموع الفتاوى (٢٩/٢٢٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>