الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
أما بعد،
فقد عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلًّا منهما من حقوق، وما يحمله إياه من التزامات مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة.
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من واقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها كثيرة.
فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
١- لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة تم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مائة دينار مثلًا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين دينارًا فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعًا كبيرًا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقًا جدًّا.
٢- لو أن متعهدًا في عقد توريد أرزاق عينية يوميًّا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أوالى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام، فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو فيضان أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة، وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات، وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد. فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة؟ تمسكًا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات؟ أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة، يعيد كفتي الميزان إلى التعادل ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟