للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتسد الذرائع إذا أدت إلى المفسدة قطعًا كحفر البئر خلف باب الدار في وسط الظلام، أو أدت إليها كثيرًا لا نادرًا، وغالبًا كبيع السلاح لأهل الحرب، أو غير غالب كبيوع الآجال المتخذة جسرًا للربا من طريق بيع السلعة لأجل بثمن أعلى، ثم شراؤها في الحال من قبل بائعها بثمن معجل أقل، فيكون الفرق بين الثمنين ربا، وهذا مذهب الإمامين مالك وأحمد، وبيوع الآجال هي محل الخلاف الشهير في العمل بسد الذرائع، فأخذ به هذان الإمامان لكثرة وقوع القصد إلى الربا، وأفسد أبو حنيفة هذه البيوع عملًا باجتهاد آخر غير سد الذرائع بسبب عدم إتمام البيع الأول لعدم استيفاء الثمن، ويؤول الأمر إلى بيع خمسة في عشرة مثلًا لأجل، وهو ربا فضل ونساء معًا، وصحح الشافعي هذه البيوع في الظاهر لاكتمال أركانها وشروطها حتى يقدم الدليل على قصد الربا المحرم، وترك الحساب على القصد الخبيث الباطن والباعث السيئ إلى الله تعالى؛ لأن هذا الإمام يأخذ في الحكم على العقود بالإرادة الظاهرة لا الباطنة.

وقد أوردت أدلة الفريقين: المثبتين لتحريم بيوع الآجال، والفرق بينها وبين بيع العينة عند المالكية، والمانعين وهم الشافعية، كما ذكرت أحكام الذرائع وشروطها، وحررت محل النزاع في الذرائع وهو بيوع الآجال وانتهيت إلى ترجيح رأي المالكية والحنابلة، لاتفاقه مع مقاصد الشريعة وحرصها على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وانسجامه مع اتجاه التشريع بتحريم الربا ووسائله وسد الباب أمام المحتالين والمفسدين الذين يحاولون التحلل من قيود الشريعة وأحكامها، وفيما عدا هذه البيوع يتفق أئمة المذاهب على الأخذ بأصل الذرائع، وإن لم يصرح به بعضهم بالأخذ به أصلًا من أصول التشريع، ويمكنني تأكيد هذه الحقيقة وهي أن سد الذرائع أصل مقرر في القرآن والسنة وفقه الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد على تفاوت في درجة الأخذ به في دائرة أتباع المذاهب بين كثرة وقلة، فلم ينفرد المالكية بالأخذ به، ولا خصوصية لهم به، إلا من حيث زيادتهم فيها، فهناك ذرائع مجمع عليها، وذرائع ملغاة، وذرائع فرعية فقهية مختلف فيها، وإن بالغ المالكية أحيانًا بالأخذ ببعضها.

وأيدت هذه الحقيقة بشواهد واضحة من فقه الأئمة الأربعة، وظهر أثر القول بسد الذرائع واعتبارها وعدم اعتبارها في الفروع الفقهية بإعلان تحريم البيوع الربوية وبطلانها عند الأكثرية، وتصحيحها في الظاهر عند الشافعية، والقول بحظر بعض المنهيات عند بعضهم، واكتفاء الآخرين بالقول بالكراهة، مثل بيع السلاح في الفتنة ونكاح التحليل وبيع العنب لعاصره خمرًا، أو القول بالبطلان كشراء الحربي سلاحًا أو حديدًا ونحوه مما يصدر لجعله عدة حرب، وبرز أثر الخلاف أيضًا في القول بتحريم الحيل الممنوعة المؤدية إلى تقويض أحكام الشريعة أو التخلص من العمل بها أو إسقاط حق أو تسويغ محرم، أو إسقاط شرط حرمه الشرع، وأجاز بعض الفقهاء كالحنفية وبعض الشافعية بعض الحيل، ولكن ذلك غير سديد شرعًا وفقهًا.

وختمت البحث بطائفة من الأمثلة على فتح الذرائع وسدها، سواء من النصوص الشرعية أم من الاجتهادات الفقهية، تأكيدًا لتأصيل هذا المبدأ في الشريعة.

أ. د. وهبة مصطفى الزحيلي

<<  <  ج: ص:  >  >>