للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما ابن حزم الذي أنكر سد الذرائع جملة وتفصيلًا فإن إنكاره لها يرجع إلى مبدئه الظاهري الذي يعول فيه كثيرًا على ظواهر النصوص ويرفض الغوص وراء المعاني، يتضح ذلك من قوله بشأن الذرائع: (ذهب قوم إلى تحريم أشياء عن طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت، واحتجوا لذلك بما روي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه)) (١) . وبعد أن يورد روايات متعددة للحديث يلحق ذلك بقوله: فهذا حض منه عليه الصلاة والسلام على الورع، ونص جلي على أن ما حول الحمى ليس من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليس بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فعل من الحرام فهي على حكم الحلال بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: ١١٩] فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] .

وبقوله صلى الله عليه وسلم ((أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) (٢) .

فمنطق ابن حزم في عدم القول بسد الذرائع أن التحريم لا يكون إلا بنص مفصل وما وراء ذلك يظل على مبدأ الاستصحاب والعفو وأن الأصل في الأشياء الإباحة.

ولاستخدامه لمبدأ الاستصحاب بكثرة في فقهه يرى عدم جواز الحكم بالظن لأنه ليس في حاجة إليه ما دام أن باب العفو والبراءة رحب واسع ومع ذلك فإن ابن حزم يقول بسد الذريعة إذا كان الفعل متيقنًا أداؤه إلى الحرام كالتوضؤ بماءين متيقن نجاسة أحدهما من غير تعيين فإن المصلي بذلك الوضوء يكون مصليًا وهو حامل لنجاسة فهذا لا يجوز، وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه (٣) .

يبقى ـ بعد ذلك ـ أمر أخير لا بد من الإشارة إليه في حجج ابن حزم التي أوردها في عدم الأخذ بسد الذرائع وهو احتجاجه على الجمهور ببعض الفروع التي لم يقل الجمهور بسد الذريعة فيها حيث يقول بعد وصفه لمذهب الجمهور بالتخاذل والتناقض: (وإذا حرم شيء حلال خوف تذرع إلى حرام فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، ولتقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر) (٤) .

فهذه الصور ـ كما سلف توضيحيه ـ لا يسد الجمهور الذريعة فيها اعتمادًا على أن المفسدة فيها متوهمة أو نادرة وأن المصلحة فيها غالبة.


(١) الحديث رواه البخاري
(٢) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٦: ٧٤٦
(٣) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٦: ٧٤٦
(٤) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٦: ٤٤٩

<<  <  ج: ص:  >  >>