والحق أن كلام أصحاب الحيل هؤلاء، كلام منمق، لا يرجع إلى معنى محقق، فهو يمتع ولكنه لا يقنع.
ذلك لأنه ليس في الشريعة الإسلامية السمحة (١) ، مضايق ومأزق ومحارج، حتى يحتاج إلى الخروج منها، فإن أرادوا بالمضايق، وما نهى عنه الشارع نهي تحريم أو أمر به أمر إيجاب، فالتكاليف التي تتضمن تحريمًا أو إيجابًا كلها مضايق إذا، والله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: ٧٨] .
والنصوص من الكتاب والسنة على يسر الشريعة، أكثر من رمل عالج، ومن أصناف التمور في العراق.
ثم إن الناظر في كتب الحيل. المنسوبة لأصحاب الإمام أبي حنيفة، قد يروقه ما فيها من نسيج بديع الصنعة، ولكن الذي يغلي سداها (بفتح السين) ولحمتها، يجد في طياتها خيوطًا واهنة وعناصر غريبة واهية، سترتها مهارة الصنعة وحسب السبك، وروعة المخارج من المحارج!!
وإن من العبث، أن نقف لبيان ما لهذه الحيل، من قيمة ضئيلة، فهي تصطدم بحقائق ودقائق، وبينات وبراهين، عقد لها (ابن قيم الجوزية) الفقيه الحنبلي المشهور، فصولًا طويلة وقد ناقش أصحاب الحيل فيها مناقشات دامغة، تمتاز بأسلوبها العملي الدقيق، وإيراد الحيل واحدة واحدة، ونقضها بالدليل النقل والبرهان العقلي في أناة وهدوء وانسجام، ثم فرق بين الحيل المباحة والحيل المحرمة، وضرب الأمثلة، وأقام البراهين واستشهد بالغائب على الحاضر.
وكنت أود أن أعرض بعض النماذج و (العينات) من كلام هذا الإمام الهمام، فهو من أوسع ما كتبه علماء الإسلام، إلا أن ضيق المجال، ومنهاج البحث لا يسمحان بإطالة الشرح والتبسط في ذكر الشواهد وضرب الأمثال، فأضربت عن ذلك كله صفحًا. ومن أراد المزيد من الاطلاع، فعليه بالرجوع في هذا الموضوع، إلى كتاب إعلام الموقعين (الجزء الثالث من صحفة ١٧١ ـ ٤١٥) و (الجزء الرابع من صفحة ١ـ ١١٧) من طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد يجد كلامًا تشد إليه الرحال في هذا المجال.
(١) بعض الكاتبين يستعمل في تعبيره لفظة (السمحاء) . وهذه الفظة (أعني: السمحاء لا توجد في الأرض ولا في السماء) .