يرى الإمام القرافي ـ وهو من المتبحرين في فقه (سد الذرائع) ـ: أن الذريعة، كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة: هي: الوسيلة. فكما أن الوسيلة المحرمة محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة، والحج. (الفروق ـ الفرق ٥٨) .
وكلمات القرافي هذه، كلمات قصار جوامع، صدرت عن علمه الواسع، فكما أن الذريعة المفضية إلى الفساد تسد وتمنع. فكذلك الذريعة المقدور عليها، الموصلة إلى الواجب تفتح.
وقد مثل لفتح الذرائع بالسعي لصلاة الجمعة، والرحلة إلى الحج، لمن كان خارج الحرم، قال تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة: ٩] وقال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: ٢٧] هذا ما مثل به القرافي لفتح الذرائع.
ونحن نزيد على هذين المثالين، بعض الأمثلة الأخرى، من نوعها، فنقول:
١- ومن هذا النوع: السلاح الذي يقاتل به الأعداء، فالأمر بإعداد السلاح، أمر واجب، لا لذاته، بل لتحقيق واجب هو القتال، (وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
٢- وكذلك الرحلة لطلب العلم مأمور بها، لأنها ذريعة إلى طلب العلم اللازم للفرد والأمة قال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا} التوبة: ١٢٢] .
٣- ومن أمثلة هذا النوع: تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات، فإنه ذريعة إلى حماية العامة من أن يغبنوا، ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجون إليه في كل يوم. فالإذن بالتسعير، فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها.
٤- ومن هذا القبيل: نبش الأموات إذا دفنوا بغير غسل، أو وجهوا إلى غير القبلة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة أعظم من توقيرهم بترك دفنهم.
وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته لأن حفظ حياته أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمة ويمكن أن يقاس على ذلك، تشريح جثث الموتى للمصلحة العامة. فهنا نجد أن الفعل الممنوع في الأصل لما فيه من المفسدة، ولكنه ذريعة إلى مصلحة، تزيد على مفسدته، فجاز ذلك (فتحا للذريعة) . فكل ذلك من قبيل فتح الذرائع.