ولو طبقت مجموع الإجراءات التي تشمل عليها هذه القاعدة، تطبيقًا أمينًا، لأدت ـ دون أي تقصير ـ إلى بناء مجتمع قوي متماسك متضامن، يعمه الأمن والرخاء وتشمله السعادة والاستقرار. ولكننا نعلم من ناحية أخرى، أن أفضل شرائع العالم وقوانينهم، تصبح عاجزة إذا فقدت الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة والنية الحسنة، لدى الناس الذين يدعون إلى تطبيقها وتنفيذها والعمل بها.
وإن أعظم طريقة لتخريب أي شريعة أو قانون، لا تتمثل في إهمال العمل، أو التهرب من الواجب فقط، بل إن أسوأ المواقف وأشنعها، وأشدها ضرارًا وفتكًا بشريعة ما، هو: أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر الورع، محترمين حروفها بكل عناية ورعاية، وإن كنا نتفق على تغيير اتجاهها، وتحريف هدفها، فنجعلها جامدة مقيتة، بعد أن كانت مرنة سمحة محبوبة ذات فضل على الناس.
فذلك هو ما أطلق عليه القرآن، وهو يتحدث عن بعض الحالات (والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . باتخاذ آيات الله هزوًا.
ونرجع فنقول: إن من أصول الشريعة ـ سد ذرائع الفساد، وإغلاق منافذ الشر، ومنع الطرق التي تؤدي إلى الاحتيال على أوامر الشريعة، أو تؤدي إلى الوقوع في المحظورات أو إهمال الواجبات.
وكل ذلك هو من اختصاص صاحب السلطة العليا في الدولة، بمقتضى الولاية العامة، فإنه على ولي الأمر وله أن ينظم الأوضاع، ويؤسس المؤسسات، ويسن الأنظمة والتشريعات التي يتوقف عليها تنظيم المصالح العامة ورعايتها، ومن ذلك (مثلاً) :
١- تحديد الأسعار وتقييدها وضبطها، وبخاصة عند الحاجة، وذلك لكيلا يطغي التجار والباعة، ويتحكموا بحاجات الناس.
٢- ومن هذا القبيل في عصرنا الحاضر، منع زراعة المخدرات والاتجار فيها، وفرض أقسى العقوبات على الذين يتعاطونها.
٣- ومن الأمثلة الواقعية في النظام الاجتماعي، على هذا النوع، منع الطلاب الذين يدرسون في الخارج من الزواج بأجنبية، وفي أثناء الدراسة وكذا منع رجال السلك الدبلوماسي من الزواج بأجنبيات، وذلك سدًا لذريعة المساس بمصلحة الدولة العامة والخاصة، كإفشاء الأسرار وانشغال الطلبة عن العلم.
وقد منع عمر بن الخطاب، بعض الصحابة من التزوج باليهوديات، لما كان ذريعة التزوج بالمومسات؛ لأن أكثر اليهود لا يرون حرجًا في اتخاذ الدعارة حرفة، إذا كان في ذلك مصلحة لبني جنسهم، ولئلا يتخذ ذريعة إلى الزواج من اليهوديات الجميلات، والعزوف عن الزواج من المسلمات، وفي ذلك من الفتنة والفساد ما فيه.
٤- ومن هذا القبيل: منع الدولة بعض الأجانب من ممارسة بعض الأعمال التي تتعلق بالمصالح العليا للدولة، ولا يؤتمن عليها إلا المواطن، وذلك سدًا لذريعة الفساد والضرر. وبالجملة: فكل هذه الأمور، إنما هي من قبيل بناء الأحكام على مقتضى قاعدة سد الذرائع.