للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتح الذريعة:

قال القرافي: اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح كما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة (١) .

ولم تراع الشريعة الإسلامية الذرائع من جهة سدها فقط بل راعتها كذلك من جهة الفتح، فأعطت كل وسيلة حكم مقصدها في الغالب.

فوسيلة المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها إنما هو بحسب إفضائها إلى غاياتها، كما قال ابن القيم: إن وسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، ومن وسائل ما فيه ذرائع الصلاح التي فتحها الشارع وأذن فيها: تسعير ما يعرض في الأسواق للبيع من طعام وغيره، فقد أذن فيه الشارع حماية للعامة من الغبن.

فالشارع حينما أذن في التسعير فتح ذريعة إلى مصلحة عامة تعود على الحياة الاقتصادية بالخير.

وقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا رجح فيها جانب المصلحة في المآل: وذلك كالمال الذي يبذل للعدو في فداء الأسرى فإنه يزيد العدو قوة وكل ما من شأنه أن يقوي العدو فهو حرام على المسلمين، ولكن البذل في هذه الحالة ذريعة إلى مصلحة هي إنقاذ أسرى المسلمين، وهذه المصلحة أرجح من فساد المال الذي يناله العدو، ولذلك يفرعون عن قاعدة سد الذريعة قاعدة أخرى وهي التي ذكرها القرافي: كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة (٢) .

ومدار هذا كما قال العز بن عبد السلام أن المصالح التي أمر الشارع بتحميلها ضربان: أحدهما مصالح الإيجاب والثاني مصالح الندب، والمفاسد التي أمر الشارع بدرئها ضربان أحدهما مفاسد الكراهة والثاني مفاسد التحريم. والشرع يحتاط لدرء الكراهة والتحريم والتحريم كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب (٣) .

وهي مبنية على الظنون فكلما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛ لأن كذبها نادر، ولا يجوز تعطيل مصالح صدقهما الغالب خوفًا من مفاسد كذبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه ولا يجوز العمل بكل ظن.

ويقول علال الفاسي: إن سد ذرائع الفساد وفتح ذرائع الصلاح مما قصدت إليه شريعة الإسلام، ومن وسائل التطور التي أحكمتها، لتبقى صالحة لكل زمان ومكان.

وقال ابن عاشور (٤) : ولولا أن لقب سد الذرائع قد جعل لقبا لخصوص سد ذرائع الفساد لقلنا إن الشريعة كما سدت الذرائع فتحت ذرائع أخرى، أما وقد درجنا على أن اصطلاحهم في سد الذرائع لقب خاص بذرائع الفساد فلا يفوتنا التنبيه على أن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح، ففتحتها بأن جعلت لها حكم الوجوب، وإن كان صورتها مقتضية المنع أو الإباحة، وهذه المسألة هي الملقبة في أصول الفقه بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهي الملقبة في الفقه بالاحتياط.

وفتح الذرائع لم يكن محل خلاف بين العلماء، بل الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء هو سد الذرائع، ولذلك اعتبر من الأدلة عند الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل حتى أشتهر المذهب المالكي به واعتبر أكثر المذاهب اعتمادًا عليه.


(١) الفروق للقرافي الجزء ٢ ص٣٣
(٢) الفروق ج٢ ص ٣٣
(٣) قواعد العز بن عبد السلام ج٢ ص ١٤
(٤) مقاصد الشريعة ص ١٢٥

<<  <  ج: ص:  >  >>