والواقع أن ما قرره الشيخ ابن عاشور في مسألة ما يجب سده من الذرائع وما لا يجب، لم أقف عليه لسواه فيما اطلعت عليه، فكان كلامه جديرا بالتأمل والاعتبار، وذلك لأنه أتى بأمرين: الأول: أنه اصل هذه القاعدة باعتبارها مقصدا تشريعيا عظيما استفيد من استقراء تصرفات الشريعة في مجالات ثلاثة:
- وفي تشريع الأحكام.
- وفي سياسة التصرف مع الأمم.
- وفي تنفيذ المقاصد.
وقد حصل هذا التأصيل بإرجاع قاعدة سد الذرائع إلى المقصد الشرعي العام الذي قام عليه الشرع الإسلامي وهو: الإصلاح، وإزالة الفساد: والذي اقتضى النظر إلى أفعال المكلفين والموازنة بين ما فيها من مصلحة وبين ما تؤول إليه من مفسدة.
الثاني: أنه تأمل الذريعة فوجدها على قسمين:
١- قسم لا يفارقه كونه ذريعة إلى الفساد بصورة مطردة بحيث يكون الفساد من خاصة ماهيته. وعلى هذا القسم بنت الشريعة أحكاما صريحة مثل حرمة شرب الخمر. وعد الفقهاء هذه الأحكام من الثوابت في الشريعة نظرا إلى كونها ذريعة إلى الفساد بصورة مطردة كما اقترن شرب الخمر بجملة من المفاسد والمضار الجسمية والمالية والاجتماعية. وهذا القسم هو أصل القياس.
٢- قسم قد يتخلف مآله إلى الفساد تخلفا قليلا أو كثيرا. وهذا القسم على
ضربين:
- بعضه قد كان سببا لتشريع منصوص منذ عهد الرسالة مثل بيع الطعام قبل قبضه.
- وبعضه لم يحدث موجبه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأوكل أمره إلى الفقهاء يوم حدث فجاء حكمه محل اتفاق بينهم في الأفعال التي اتضح إفضاؤها إلى المفسدة. وجاء الحكم محل خلاف بينهم، فيما دون ذلك من الأفعال التي لم يتضح إفضاؤها إلى المفسدة اتضاحا بينًا.
وكان ذلك الاختلاف تابعا للاعتبارات التالية:
- مقدار اتضاح إفضاء ذلك الفعل إلى المفسدة وخفائه.
- وكثرة ذلك الإفضاء وقلته.
- وجود المعارض الذي يفضي إلى إلغاء المفسدة وعدم وجوده.
- دوام إفضاء ذلك الفعل إلى المفسدة أو توقيته.
- قرب المقيس من الأصل المقيس عليه وبعده باعتبار أن هذا القسم هو الفرع
المقيس، وأن القسم الأول المتقدم هو الأصل المقيس عليه.
- اعتداد مالك بالتهمة في بيوع الآجال حين اعتبر قصد الناس إليها قد أدى
إلى شيوعها وانتشارها، فأفضى ذلك إلى المفسدة التي لأجلها حرم الربا