وبعد النظر فيما قاله القرافي:"فليس سد الذرائع خاصا بمالك –رحمه الله- بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه" وقد سبق ذكره في مطلع هذا الفصل. وما قاله التاج السبكي في معارضة كلام القرافي ونصه: قلت: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، وسنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى سد الذرائع في شيء.
بعد النظر في هذا كله وفي التقسيم الذي ذكره التقي السبكي للذريعة، يتبين أن الشافعي يقول بالذرائع وبسدها لا كما قال التاج السبكي: إنه لا يقول بشيء منها.
والذرائع هي الذرائع وكذلك سماها التقي السبكي وتسميتها بالوسائل لا يغير من الواقع شيئا وإنما هي اصطلاحات مختلفة لمسمى واحد، ولا مشاحة في الاصطلاح وليس جرما أن يكون ما يسميه البعض وسيلة يسميه آخرون ذريعة، ما دامت اللغة تتسع، والمراد مفهوم. وليس مسمى الوسيلة أو الذريعة –هو واحد- مما يجوز أن ينقلب إلى موضوع اختلاف –وهمي في رأينا- خاصة ومن العلماء من نبه إلى الترادف بين المصطلحين وبين أن الوسائل اصطلح المالكية على تسميتها بالذرائع.
قال القرافي في مطلع كلامه في الفرق الثامن والخمسين بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل ما نصه:"وربما عبر عن الوسائل بالذرائع، وهو اصطلاح أصحابنا، وهذا اللفظ المشهور في مذهبنا، ولذلك يقولون سد الذرائع" فكون الشافعي –رحمه الله- يقول بالوسائل لا يعني هذا أنه لا يقول بالذرائع إلا إذا أثبتنا الفرق بين هذه وتلك، ولم يحصل شيء من هذا فيما رأينا من تفرقة بالقول دون تحديد ملموس.
أما أن المالكية قد توسعوا في الأخذ بسد الذرائع ما لم يتوسع فيها سواهم، فهذا واقع قامت عليه الشواهد من الفروع الفقهية.
وبناء على كل ما أسلفنا نستطيع القول: بأن الأخذ بالذرائع ليس مما اختص به المذهب المالكي بل مما أخذ به كل المذاهب ومن بينها المذهب الشافعي في أخذه بالوسيلة المستلزمة للمتوسل إليه، وفي أخذه كذلك بغير المستلزمة في بعض الحالات، وإن قلت ولم تبلغ مبلغ ما أخذ به المالكية الذين توسعوا، وإن تمسك بعض الشافعية مثل التقي السبكي وتبعه ابنه التاج السبكي بعدم التصريح مما دعاهما إلى عديد التأويلات.