وقد ركن شيخ الإسلام ابن عاشور إلى تأصيل سد الذرائع –الذي وصفه بأنه مقصد تشريعي عظيم- وذلك بإرجاعه إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد في الشريعة، وكأنه بهذا الإرجاع إلى هذه القاعدة المجمع عليها يتجاهل الخلاف الوهمي في سد الذرائع ويوافق القرافي إذ قال: وأصل سدها مجمع عليه. يقول –رحمه الله- بعد ذكر التقسيم الذي اعتمده الشهاب القرافي لسد الذرائع:"ولم يبحث عن وجوب الاعتداد ببعض هذه الذرائع دون بعض وما هو عندي إلا التوازن بين ما في الفعل الذي هو ذريعة من المصلحة، وما في مآله من المفسدة. فترجع إلى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد ... " ثم يقول رحمه الله: "فما وقع منعه من الذرائع هو ما قد عظم فيه فساد مآله على صلاح أصله، مثل: حفر الآبار في الطرقات، وما لم يقع منعه هو ما قد غلب صلاح أصله على فساد مآله كزراعة العنب. على أن لاحتياج الأمة إلى تلك الذريعة بقطع النظر عن مآلها، وفي إمكان حصول مآلها بوسيلة أخرى وعدم إمكانه، أثرا قويا في سد بعض الذرائع وعدم سد بعضها". ولا يظن أن المراد باحتياج الأمة إلى الذريعة اضطرارها إلى وجودها. بل المراد به أنه لو أبطل ذلك الفعل الذي هو ذريعة للحق جمهورا من الناس حرج، فإن العنب تستطيع الأمة أن تستغني عنه، إلا أن في تكليفها ذلك حرمانا لا يناسب سماحة الشريعة، فكانت إباحة زراعة العنب بهذا الاعتبار أرجح مما تؤول إليه من اعتصار نتائجها خمرًا.
بخلاف التجاور في البيوت، فإنه لو منع لكان منعه حرجا عظيما، يقرب مما لا يطاق، فهو حاجي قوي للأمة، على أن ما يؤول إليه من الزنى مآل بعيد: وإن كانت مفسدته أشد من تناول الخمر (١) . هذا ولو رتبنا المذاهب السنية الأربعة بحسب كثرة الأخذ بسد الذرائع وقلته لوجدناها على النحو التالي: أكثرها توسعا في الأخذ بسد الذرائع المذهب المالكي ويليه الحنبلي.
وأقلها توسعا فيه المذهب الشافعي ويليه الحنفي. وعلى نسق هذا الترتيب نسوق فيما يلي جملة من شواهد العمل بسد الذرائع في هذه المذاهب.