للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنه ليس في شيء من الأحاديث إناطة الحكم الشرعي بالحساب الفلكي. وتسمية الشهر به: شهرًا، بل تعليقه الحكم بأمر يقيني من رؤية أو إكمال يدل دلالة واضحة على نفي إناطة الحكم بأي سبب آخر، ففي هذا فطم عن الاعتماد على الحساب في هذا الحكم.

السابع: أن ترائي الهلال مشروع لهذه الأمة لضبط مواسم تعبدها فإن كانت العبادة واجبة كصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، كان الترائي واجبًا كفائيًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن كانت مسنونة كان الترائي مسنونًا؛ إذ الوسائل لها أحكام الغايات، فإن تمت الرؤية وإلا فالمصير إلى الإكمال، والحمد لله على اليسر ورفع الحرج.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (وفيه –أي حديث ابن عباس - أن الله مقيد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، وفيه تأويل لقول الله عز وجل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أن شهوده ورؤيته أو العلم برؤيته) اهـ.

المبحث الثالث:

إجماع المسلمين على موجب هذه النصوص.

موجب هذه الأحاديث أن التكليف يتبع العلم، وقد علقه الشارع بأمر محسوس يستوي فيه عموم البشر، ونهي الأمة عن الصوم إلا بأحد هذين الطريقين. فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال..)) الحديث. وهذا من باب عموم النفي لا من باب نفي العموم، أي: لا يصوم أحد حتى يرى، أو حتى يعلم أنه رؤي أو ثبت شرعًا أنه رؤي. فإذا انتفت الرؤية البصرية انتفى العلم بالإهلال، وإذا انتفى العلم به بحاسة البصر فقد جعل الشرع المصير إلى تعليق الحكم بمناط آخر يستوي فيه عموم البشر وهو إكمال شعبان مثلًا ثلاثين يومًا. ولا يعلم في شيء من النصوص تعليق المناط بغير هذين. وهذا –والله أعلم- لأن ما سواهما، إما فاسد أو مظنون، أو فيه من التكلف والحرج والعناء، وصرف الحياة إلى ما لا نفع من ورائه بما لا تأتي بمثله الشريعة المطهرة.

وهذا التقرير هو ما عرفه المسلمون في شتى عصورهم، وما زالت عباداتهم قائمة وأمورهم راشدة. ولا يعرف في هذا خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية اتفاقهم. وحكاه المهدي في البحر. ومذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ذلك. قال مالك رحمه الله تعالى: إن من يصوم بالحساب لا يقتدى به، وقال ابن عرفة: لا أعرفه لمالكي. بل قد حكى الإجماع على موجبه غير واحد من أهل العلم في القديم والحديث منهم ابن المنذر في الإشراف، وسند من المالكية، والباجي، وابن رشد القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسبكي، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني، وصديق حسن خان في تفسيرهم لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} الآية وملا علي قاري. وقال أحمد شاكر: "واتفقت كلمتهم أو كادت تتفق على ذلك".

ونكتفي من النقول عنهم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية إذ حكاه في مواضع من: اقتضاء الصراط المستقيم، ومجموع الفتاوى ٢٥/ ١٣٢، ١٧٩، ٢٠٧ فقال ٢٥/ ١٣٢:

"إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى، لا يجوز، والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلًا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم" اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>